السبت 2019/03/16

آخر تحديث: 09:51 (بيروت)

لو صارت مجرد ذكرى ثامنة

السبت 2019/03/16
لو صارت مجرد ذكرى ثامنة
increase حجم الخط decrease
منذ ثلاث سنوات أصبح لمرور ذكرى الثورة طعم أكثر مرارة، أي بعد التدخل العسكري الروسي المباشر، وقلب الموازين لمصلحة قوات الأسد والميليشيات الشيعية الحليفة. ذلك لا يعني أن الوضع من قبل كان في أفضل حال، سواء مع منهج الإبادة والتدمير المستمرين، أو مع ما ظهر من عدم اكتراث دولي إزاء المقتلة السورية، أو ما ظهر في معسكر الفصائل التي تقاتل الأسد من أمراض الأسدية نفسها، أو من اختلاطها مع طموحات الاحتكار والهيمنة الإسلامية.

في سيناريو مختلف "شديد التفاؤل" كان ينبغي للسوريين الاحتفال بهذا التاريخ بوصفه بداية خلاصهم، وفي سيناريو متأخر عنه "وأقل وردية" كان لمنسوب الحفاوة أن ينخفض لصالح استخلاص العبر من الحرب. لا هذا حدث ولا ذاك، لكن من المرجح أن يبقى منتصف آذار تاريخاً يحفر في ذاكرة الجميع، ممن، رغم كل المآسي، يرونه تاريخاً ناصعاً، وممن، رغم كل المآسي أيضاً، يرونه تاريخاً أسود.

قبل اندلاع الثورة كان بشار قد أعلن الحرب، عندما صرّح لصحيفة غربية بأن سوريا ليست تونس أو مصر، وما فهمه السوريون حينها من التحذير أو التهديد أن حكمه ليس كحكم بن علي أو مبارك. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن نية الحرب لدى السلطة ومؤيديها مبيّتة من قبل، إذا تجاوزنا كون الأسدية في حد ذاتها مشروع حرب دائمة على السوريين. اندلاع الثورة كان تعبيراً عن هذا المأزق، إذ لا يمكن لبلد أن يشهد الاستقرار بينما يكون خاضعاً طوال عقود لمنطق الحرب، مهما كان تمويه الأخيرة متقناً.

الوحشية التي طفت على السطح منذ اندلاع الثورة أتت بمثابة فرصة مرّةٍ لفهم العالم وموازينه السياسية، أكثر مما هي مناسبة لفهم الأسدية التي يعرفها السوريون سلفاً. ضمن الحسابات السياسية الدولية يصعب تصور انتصار الثورة، مع الاحتفاظ بأقسى أنواع النقد والهجاء تجاه أداء الهيئات التي تولت تمثيلها. امتناع الانتصار خارجياً، فوق وجود سلطة تحتكر مفاتيح القوة داخلياً، لم يكن ليعني سوى ما شهدناه خلال السنوات الثماني الأخيرة، والتواطؤ الدولي على إبقاء الأسدية لا يعني سوى ترك الحرب مفتوحة بأداتها الرئيسية والأكثر وحشية.

هذه الحرب المستمرة على حاضر ومستقبل السوريين تبقي الصراع الداخلي متمركزاً عند تاريخ اندلاع الثورة، إذ بدءاً منه ثمة شقاق لا يمكن ردمه إلا بمصالحة تاريخية على جثة الأسدية. بهذا المعنى سيبقى التاريخ المذكور حدثاً تأسيسياً، رغم محاولات ردمه المادية والمعنوية. الموالون قبل المعارضين لن ينسوه، وسيبقى مهيمناً على مخيلتهم ومنبعاً لمخاوفهم ووحشيتهم معاً. بوعيه أو بلاوعيه، يدرك الموالي أمرين متناقضين؛ انتصار الأسدية وفشلها في الوقت نفسه. هي قد انتصرت أولاً بفعل خارجٍ داعم أو متواطئ، لا بفعل قوتها الذاتية أو نجاحها في تطويع السوريين إلى الأبد الذي كانت تلوّح لهم به.

بالمعنى السابق لنقض فكرة الأبد تكون الثورة قد حدثت وانتصرت، إلا أنها فشلت أيضاً، أي أنها نجحت سلباً من حيث تقويض ما قامت لتقويضه، وفشلت إيجاباً في جعل البديل متاحاً. هذا التمزق بين الانتصار المخفي والفشل الدامي سيبقي تاريخ اندلاعها ماثلاً في أذهان أنصارها، سواء من اضطر منهم إلى المنافي أو من بقي تحت سيطرة الأسد. الضغط الذي يمثّله التاريخ سيبقى مثقلاً باستحقاقات لم تنفّذ، وعلى الصعيد الوجداني سيظل مثقلاً بذلك العدد المهول من الضحايا. بل لا نجافي الواقع إذا قلنا بأن هذه الوضعية ستبقي الحزن معلّقاً، لأن دفن مرحلة بأكملها مع ضحاياها لم يحدث بعد.

الغضب الملازم لفشل الثورة سيبقى دافعاً لاستكمالها، أو لدى البعض للانتقام أو الثأر ممن تسبب في فشلها. في كل الأحوال، قلة فقط ستتأقلم أو تتصالح مع الفشل وتركن إليه في قرارتها، بينما ستحتفظ الكثرة المجبرة على البقاء تحت سيطرة الأسد بأحقادها إلى أن تحين الفرصة المناسبة. هذا ما يدركه تنظيم الشبيحة وأتباعه، لذا سيكون التعايش الإجباري بين الطرفين محفوفاً بالقهر المادي أو المباشر للطرف الأضعف، والقهر المعنوي للطرفين.

في جو يُمنع فيه التعبير عن أسباب القهر، من المتوقع تصريف تلك الطاقة عبر مختلف أنواع العنف التي لا تحمل مخاطر السياسة. وحيث تحتفظ ذاكرة الجميع بأشد المشاهد فظاعة، وبكل أنواع الاستباحة والاستهتار بالإنسانية، سيكون من الصعب جداً ضبط المستوى الغرائزي الذي انحدر إليه الوضع. الصورة التي يُراد ترويجها عن أناس لا يريدون سوى العيش بهدوء وأمان تحمل بعض الصحة، وعلى نحو مؤقت، فالحق في الحياة ليس أقصى ما يسعى إليه البشر في أي مكان، ولو كان كافياً لما اندلعت الثورة من قبل.

قد لا نجازف إذا قلنا أن نسبة كبيرة من السوريين، بكافة انتماءاتهم، لم تستوعب فكرة الثورة، وهي كما نعلم أول تجربة من نوعها، في سوريا والعديد من بلدان المنطقة. لقد عايشت أجيال من قبل انقلابات، أطلق عليها قادتها زوراً اسم "الثورة"، وشهدت تلك الأجيال صراعاً على السلطة أكثر مما هو صراع على طبيعة السلطة. عدم اعتراف كثيرين بالمغزى التأسيسي للثورة لا ينفيه إلا في عقولهم، ولا يمحو الآثار والارتدادات المقبلة، والنسخة المتهافتة الموروثة من الماضي تفيدنا بأن هذه السلطة قد استهلكت نفسها بقدر ما استهلكت من حيوات السوريين.

لو أنها صارت مجرد ذكرى ثامنة، لثورة أدت دورها وانقضت، لكان ذلك أفضل ما تفعله ثورة على الإطلاق، إذ يكون أبناؤها "قبل خصومها القدامى" قد تخلصوا وفاءً لها من فكرة التقديس. أما، بما نحن عليه، فإن الذكرى مثقلة فضلاً عن بحر الدماء بكل ما ينبغي فعله وقوله كي لا تضيع فكرة الحرية أو العدالة، ولعلها قسمة ذات دلالة بليغة أن تحمل لأبناء الثورة آلام ثماني سنوات من المقتلة، بينما تحمل للقتلة نصراً مغشوشاً اليوم ومسموماً في ما بعد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها