الثلاثاء 2019/12/31

آخر تحديث: 00:19 (بيروت)

عام من زمن إستثنائي

الثلاثاء 2019/12/31
عام من زمن إستثنائي
تظاهرة أمام مصرف لبنان (غيتي)
increase حجم الخط decrease

يتصور الناس دائماً أن عصرهم بوجه خاص هو عصر الكارثة أو النور، البطولة أو المأساة، أن هناك شيئاً جامحاً وفريداً بشأن أيامهم، سنين من الخطر الداهم أو الركود الطويل. فالأحداث التي تمرق من حولهم هي نهاية التاريخ، أو بداية جديدة له، أو فقرة طويلة من الصمت في مساره ينبغي تذكرها. وفي كل هذا يُقرّون، ولو من دون وعي، بأن التاريخ يُصنع اليوم تحديداً، وكل يوم أيضاً، بطرق مختلفة، لكن بالعمق ذاته. لا وثبات معروفة اتجاهاتها سلفاً، ولا تقدم خطياً مضموناً، ولا دورات ذات عَود أبدي، أو موجات كاسحة من المد والجزر قادرة على تفسير الزمن وأحداثه. فكل هذا الأنماط من الحركة وعكسها تحدث في الوقت ذاته، بدلالة واحدة بأننا نصنع التاريخ ويصنعنا في كل لحظة، وأننا مركز هذا كله مع إقرار بضآلتنا أمامه. الحنين إلى الماضي والحلم بالمدن الفاضلة وكوابيس الديستوبيا، جميعها صور لتلك المحاولات المزمنة لوضع علامات ثابتة في مسار الزمن، تنجح أحياناً، لكن إلى حين فقط.

قبل عام واحد فقط، كان كل ما يمكننا فعله هو حصر الخسائر من حولنا، عقد بدأ في منطقتنا بموجة من الثورات الواعدة كان في طريقه لخاتمة مفجعة، ديكتاتوريات أكثر شراسة من سابقاتها، مئات الآلاف القتلى وملايين النازحين في سوريا، حرب مفجعة في اليمن وكارثة إنسانية هي الأفدح في هذا القرن، ترسيخ للمشروع الصهيوني والمضي قدماً في تصفية ما بقى من القضية الفلسطينية. العالم من حولنا يشهد صعوداً مأساوياً لصور من السلطوية والشوفينية الضيقة، وردَّة متزامنة في أكثر من مكان لما ظنه الجميع مكتسبات "التقدم" والديموقراطية أو الحصاد الأخير لنهاية التاريخ. في الولايات المتحدة، ومن الصين إلى الهند والبرازيل، وفي أماكن أخرى كثيرة، ترتفع الأسوار وتعود المعسكرات الجماعية وتتعالى خطابات زاعقة وعلنية تتباهى باضطهاد المهمشين والأقليات والضعفاء والضحايا.

لكن نبؤات الأزمنة الأخيرة سرعان ما تبددت أمام عيوننا، في عام واحد فقط، عامنا هذا المنصرم. تندلع الثورات في عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه، في السودان والجزائز تسقط أنظمة أو على الأقل رؤوس السلطة، في لبنان والعراق تتهاوى بنى طائفية ظن الجميع أنها حتمية وأبدية، خريطة من توازنات إقليمية قديمة عمرها عقود وتحالفات وحشية جديدة بنيت على عجل تترنح جميعها بشكل خاطف. في مصر تتوالى حملات من القمع، لكنها لا تنجح في إخفاء ما تم كشفه هذا العام بجلاء غير مسبوق: هشاشة النظام القائم. الحرب في اليمن لا تقترب من نهايتها، لكن أطرافها جميعاً تدرك إنها وصلت إلى طريق مسدود، القدس عاصمة لإسرائيل وضم الجولان، هذا كله لم يمنح نتنياهو داخلياً نصراً سهلاً كما كان يظن، بل قبضة ظلت ممسكة بالسلطة في تل أبيب لوقت طويل ترتخي أخيراً. في كل مكان آخر، يبدو أن كل ردَّة إلى الخلف تُقابَل بمقاومة شرسة. لا خسارة نهائية، ولا انتصار كاملاً.

ليست هذه دعوة للتفاؤل بالطبع، فكما أن حرباً تخمد في اليمن مثلاً، فغيرها يشتعل في ليبيا. المأساة السورية باقية وتترسخ كجرح يفتح كل صباح، ثورات تدخل عامها الثاني بعلامات بينة من الوهن وربما دلائل هزيمة مبكرة. ربما ينتهى نتنياهو في السجن، لكن هل جنرالات أزرق أبيض، هم حمائم السلام؟ انتفاضة في تشيلي وعودة لليسار في الأرجنتين، لكن نصف إنقلاب في بوليفيا يعيد للأذهان تاريخاً طويلاً من الديكتاتوريات العسكرية في القارة اللاتينية. في الهند أو الصين، ما كان ليمرّ، قبل عقود، بقليل من الضوضاء، يبدو فرضه عسيراً اليوم، لكن ربما يمر في النهاية، ببعض المشقة.

حكمة أن سُنَّة العالم هي التغيير، لا تحتاج إلى الكثير من الجهد لإثباتها بالتأكيد، لكن ما تدفعنا إليه أحداث العام الماضي الهائلة هو أن ننغمس في زمننا هذا والآتي منه، بشكل كامل، بيقين إنه زمن استثنائي، مثل أي زمن آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها