الأحد 2019/12/29

آخر تحديث: 08:13 (بيروت)

ثورة تخدم السلطة بالمجان

الأحد 2019/12/29
ثورة تخدم السلطة بالمجان
increase حجم الخط decrease
تختلف مسميات الحراك الأخير في لبنان. حيث تتراوح المسميات بين: حراك شعبي، انتفاضة، عصيان مدني، وثورة.  تعدد المسميات يدل من جهة على تعددية المرجعيات والقوى والجهات الناظمة والشخصيات الناظمة والمعبئة للحراك الشعبي. ويدل من جهة أخرى على تفاوت الرؤى والتصورات في إدارة هذا الحراك والمدى الأقصى الذي يمكن الوصول إليه. بين رغبة بإيصال رسالة احتجاج، وبين جهات تعمد إلى إرباك السلطة، وبين جهات ترَكَبُ موجة َالحراك لتحسين شروط مواقعها في السلطة، وبين رغبة بتغيير شامل لقوى السلطة، وبين دعوة إلى ثورة شاملة لم نفهم إلى الآن طبيعتها والجديد الذي تحمله.

 لا بد من مصارحة كل المنخرطين في هذا الحراك الذي آمنت به شخصياً وما زلت.  أن يستمر الحراك بأداء احتجاجي يكرر نفسه وحضور متقطع يكاد يصبح موسمياً ونمط تعبير تغلب عليه الإحتفالية، أن يستمر كذلك، يعني أن الحراك وصل إلى مرحلة ذروة وإشباع، وبات متوقعاً في أساليبه ونشاطه ومحدود الأثر في نتائجه. الأمر الذي سهل على السلطة الحاكمة الالتفاف عليه، وإفراغه من مضمونه، بل وساعد طرف في السلطة في تصفية حسابه مع الطرف الخصم، بحيث وبدلاً من إرباك السلطة ومحاصرتها وتقويض أركانها وإعداد رموزها للرحيل، إذا بهذه السلطة تستثمر الحراك نفسه لتعزز مواقعها وتغير موازين القوى داخل لعبة التجاذب الحاصلة في داخلها.

هذا يعني بطريقة أو بأخرى أن نشاط الحراك ما يزال ملتزماً بقواعد اللعبة التي تتحكم بخيوطها السلطة نفسها. وكل مردود لهذا الحراك سيعود بالنفع على أهل السلطة كلهم أو طرف فيهم. إذ طالما أن حل الأزمة ما يزال ملقى على عاتق أهل الحكم أي منحه الكلمة الأخيرة، وطالما أن الحراك ما يزال في حالة هلامية يصعب معها تكوين جسم تتوحد تطلعاته ورؤاه ومواقفه وتنسق نشاطاته، وطالما أنه لم ينتقل من حالة الاحتجاج والمطالبة، أي حالة السلب، إلى حالة البرنامج والمشروع، الذي بدلا من أن يحتج ويطالب بحلول يعمد إلى إنتاج الحلول ومتابعتها وتحقيقها. وطالما أنه لم يفرز إلى الآن مرشحين وقيادات وشخصيات ذات صلاحيات محددة وقدرة تمثيلية تسهم في بناء شبكة علاقات دولية وتُدخل رُوحيةَ الحراك إلى قلب النقاش السياسي وصناعة القرار ، وطالما أن التفكير بسبل اختراق هياكل السلطة الحالية وتقويضها ما يزال غائباً وان البحث في تشكيل كتلة تغيير تاريخية أو بناء مجتمع سياسي بديل ما يزال في منطقة اللامفكر فيه. طالما أن الأمور ما تزال داخل هذه المحاذير، فإن السلطة وبعد مضي شهرين على بداية الحراك باتت أكثر ارتياحاً وثقة، وتحتفظ بكلمة الفصل الأخيرة.

حين نهتف "ثورة ثورة" ولا نملك أدنة فكرة عن معالم الحياة الجديدة التي نريد أن نحياها ونؤسس على ضوئها مبادىء الانتظام السياسي الجديد، يعني أن الحراك بدأ يعوض إخفاقاته وضآلة إنجازاته وانسداد أفق التغيير لديه بصخب احتفالي ومدح مبالغ به للذات وتصعيد غير عقلاني للمطالب وتصوير نرجسي لمآلات الحراك ونتائجه. هي مرحلة تدل على أن الحراك أخذ يعاني من الدوران في الحلقة المفرغة التي تمنعه من الإنتقال إلى مرحلة التغيير التالية، ويعاني أيضاً من حالة الإنفصام عن الواقع نفسه وغياب الوعي الجلي بشراسة هذا الواقع وعمق الفساد الحالّ فيه.

الثورة أكثر من تغيير أشخاص وأبعد من تغيير نظام، هي تفكيك لقواعد اللعبة التي ما يزال الجميع يتحرك داخل دوائرها، وهي المجيء بمنظومة قيم بديلة عن القيم والخلقيات المتداولة التي ما تزال تؤطر سلوك الجميع بمن فيهم ثوار الحراك.  لنتذكر أن السلطة الحديثة، لا تنتج أدوات الحكم والسيطرة وتحدد من هم في الحكم فحسب، بل تضع ايضاً قواعد معارضتها وأصول الخروج عليها وصفات المتمردين عليها. ما يجعل صاحب النفوذ والخارج عليه ميدان نفوذ وتحكُّم لنفس دائرة هيمنة السلطة. والإختلاف بين من في السلطة والخارج عليها هو مجرد اختلاف في المواقع داخل ممارسات تَحَكُّمٍ ومراقبة وثواب وعقاب واستراتيجيات هيمنة واحدة.

حين تفادت السلطة مواجهة الحراك بطريقة عنفية وحين تمادت في تجاهل مطالب الحراك الجوهرية وعمدت إلى المماطلة وإلى السعي لتشكيل حكومة مستفزة للحراك نفسه، حين فعلت كل هذا، ربما بسبب أن هذه السلطة تعرف مسبقاً أن الحراك ما يزال داخل حظيرتها، لجهة أنه يلعب بأدوات تَملُكُ السلطةُ وضع قواعدها وتجيد ببراعة طرق استعمالها، وبسبب أنها تحتفظ بكامل القدرة  الترغيبية والترهيبية على إعادة أهل هذا الحراك إلى بيت الطاعة ساعة تشاء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها