السبت 2019/12/28

آخر تحديث: 09:21 (بيروت)

الرياض وإفساد من لم يفسد

السبت 2019/12/28
الرياض وإفساد من لم يفسد
increase حجم الخط decrease
مفاجأة صغيرة سجلتها الرياض بدعوتها ثمانين "معارضاً سورياً مستقلاً"، من أجل انتخاب ثمانية منهم يمثّلون كتلة المستقلين في الهيئة العليا للتفاوض. وجه المفاجأة يتعين في ما يظهر كأنه صحوة سعودية إزاء الملف السوري بعد طول انكفاء عنه، خاصة أن الدعوة تزامنت مع هجوم روسي-أسدي على إدلب، وقبله فشل اجتماعات اللجنة الدستورية، أي أن التوقيت لا يحمل دلالات إيجابية لجهة التحضير لعملية سياسية، بل لا تلوح في الأفق المنظور بوادر لانطلاقها سوى على المنوال الذي يقوم فيه ممثلو الأسد بتعطيلها، أو بالأحرى بالتنكيل بجثتها.

دعوة الرياض الأخيرة معطوفة على الدور الذي أُسند إليها بموجب بيان فيينا في 30 أكتوبر 2015، حيث مُنح لها تشكيل هيئة التفاوض كبديل عن احتكار الائتلاف مهمة التفاوض، الائتلاف الذي أصبح مع الملف العسكري تابعاً لأنقرة بموجب القسمة ذاتها. لكن كما نعلم، منذ ذلك الوقت حصلت متغيرات عديدة، منها توقف المسار الأممي كلياً لصالح مسار أستانة، ومنها أن الأخير كرّس عملياً "قواعد تفاوض" تنسف نص بيان فيينا. المثال الأهم على ذلك البدء بمفاوضات اللجنة الدستورية، وبما يخالف الفقرة السابعة منه التي تنص على "عملية سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة".

لا يُنتظر إحياء بيان فيينا ككل، بعد أن بذلت موسكو جهوداً مضنية لتغليب "المسار الدستوري" على بقية المسارات التي كان يُفترض أن تعمل بالتوازي. بمعنى أن لقاء الرياض الحالي لن يتعدى تعديل جزء يسير من التركيبة الكلية التي تفاوض في ملف الدستور، فالمستقلون الثمانية وفق التركيبة الحالية هم أقل من ربع العدد الإجمالي لهم، وهناك حصة مماثلة تقريباً تحدد أسماؤها الفصائل العسكرية وحصة أخرى مماثلة للائتلاف وكذلك لمنصتي موسكو والقاهرة معاً. المغزى المعنوي لتحرك الرياض يفوق هذا التأثير المحدود جداً، في عملية متعثرة ولا أفق لها، فالرسالة الأهم هي عودة الرياض إلى الملف السوري.

الرسالة موجهة في الدرجة الأولى إلى أنقرة التي احتكرت طوال السنوات الأخيرة تسيير المعارضة، واليوم قد نكون على موعد مع فصل جديد من التنافس بين الجانبين يتعلق بالملف الليبي، ما استدعى من الرياض إحياء ورقة فيينا للتلويح بها أمام التدخل التركي هناك. إلا أن إحياء جثة فيينا ليس في متناول الرياض، ما لم تكن مسنودة بدعم دولي، غاية الأخير أيضاً توجيه ضغط لأنقرة لا إحياء تفاهمات فيينا كاملة، ولا البدء بعملية سياسية صارت محط سخرية غالبية السوريين، بعد أن أبدت القوى الخارجية التي اقترحتها منتهى الاستهتار بها.

التدخل التركي في ليبيا مرفوض من العديد من القوى الدولية والإقليمية بما فيها موسكو، ولا تغامر موسكو بعلاقاتها مع أنقرة من خلال الضغط عليها عبر الرياض، لأن شهر العسل بين الجانبين يوشك على الانتهاء مع الهجوم على إدلب. على العكس، من مصلحة موسكو الضغط على أنقرة بعد أن جنت بالتحالف معها المكاسب الممكنة من مسار أستانة، ميدانياً وسياسياً، وقد لا نكون بعيدين عن موسم تفجر الخلاف بين الجانبين لأنها ترى في الوجود العسكري التركي فيما تبقى من المناطق السورية مؤقتاً، في حين تسعى أنقرة إلى ربط إنهائه بالتسوية السياسية.

ورغم أن المعارضة المنضوية تحت النفوذ التركي التزمت بتوجهاته، من لعبة مناطق خفض التصعيد والالتزام بهدن لا يلتزم بها الطرف الآخر، مروراً بالمشاركة في مهزلة مؤتمر سوتشي، وصولاً إلى التصفية العملية لمضمونها العسكري والسياسي، فهذا مما لا تكتفي به موسكو. حتى قبل التدخل العسكري المباشر، سعت موسكو إلى تمييع تمثيل المعارضة بكافة الوسائل، وحتى تهافتها تحت النفوذ التركي أقل مما تطمح إليه عبر تشتيتها أكثر فأكثر، لتؤكد مرة تلو الأخرى على عدم وجود طرف معارض متماسك وله مصداقية للتفاوض معه. 

ذلك بالطبع لا يمنح أية ميزة للمعارضة المنضوية تحت العباءة التركية، فهي بسبب ذلك أصبحت مثار استهجان غالبية السوريين. الدخول السعودي على الخط، وإن كان يُضعف الائتلاف وتوابعه، فهو لا يخرج عما هو مثار استهجان، لأن تحويل الولاءات بين هنا وهناك يبقى في دائرة الارتهان ذاتها. واقع الحال أن السوريين يرون في قسم من المعارضة ممثلاً لتركيا، وفي قسم آخر ممثلاً للرياض، وهناك تمثيل أيضاً لموسكو، بينما لا توجد كتلة ولو صغيرة يُنظر إليها كممثل مقبول لقيم الثورة.

بلا مجاملة أو تحامل، النظرة السائدة إلى المعارضة هي أنها فاسدة ولا تحظى بأدنى احترام. دعوة الرياض ثمانين "مستقلاً" لانتخاب ثمانية منهم سرعان ما انقلبت على المدعوين الذين سيُنظر إليهم جميعاً كأداة سعودية ليس إلا، وكأن المفعول الوحيد لها هو إفساد أو حرق المزيد من المتورطين. الأسماء التي انتشرت، والتي لم ينكر أصحابها دعوتهم، أعطت فرصة إضافية لتبيان التهافت، ففيها على سبيل المثال ثلاثة أشقاء غير معروفين أصلاً بنشاطهم أو حضورهم السياسي الملموس. فكرة الاستقلالية في حد ذاتها صارت عرضة للسخرية، فالأصل فيها وجود أفراد لهم حضور اعتباري يضيفون ثقلاً معنوياً بمشاركتهم، بينما تُستغل هذه الفكرة ضمن أوساط المعارضة وداعميها لحشر أشخاص لا يمتلكون رصيداً، وعدم امتلاك الرصيد ليس مصادفة بالتأكيد، بل هو لسهولة انقياد من لا رصيد له يخسره.

ما سبق لا تتحمل مسؤوليته الحصرية الرياض التي تسعى مثل غيرها وفق مصالحها، وإنما تتحمل مسؤوليته كافة الجهات الداعمة التي تعاملت مع المعارضة ضمن المنطق ذاته، ويتحمل مسؤوليته الأولى والأخطر سوريون قبلوا بأن يكونوا أدوات لهذه الجهة أو تلك. الضرر الذي وقع يبدو مستداماً حتى إشعار آخر، لأن أي وافد جديد للعمل ضمن المعارضة سيدفع ثمن سمعتها التي تراكمت خلال سنوات، وسيكون أيضاً بمثابة إفساد من لم يفسد من قبل إذا لم يكن ضالعاً في التراكم السابق. ما يفاقم السوء أن المتلهفين حتى الآن لإقصاء المعارضة بغالبيتهم من الناقمين الذين لم ينالوا حصتهم منها، أو من رعاية الدول الداعمة، وأن يحمل البعض منهم شعارات من قبيل القرار المعارض المستقل فذلك بالنسبة لهم لا يتعدى محاولة الدخول إلى السوق على أمل وجود مشترين، إن لم يكن المشتري جاهزاً ومضموناً من قبل. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها