الأحد 2019/12/22

آخر تحديث: 11:17 (بيروت)

عزل ترامب..إنشطار أميركا

الأحد 2019/12/22
عزل ترامب..إنشطار أميركا
increase حجم الخط decrease

 حين تتابع إجراءات عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والنقاش الداخلي الذي دار داخل مجلس النواب الأمريكي بين الديمقراطيين والجمهوريين، لا تجد صعوبة في الاستنتاج بأن القضية أعمق من مجرد بحث في كفاية الأدلة بأنه أساء استعمال السلطة لصالحه الشخصي أم أنه عطل عمل Obstruction  مجلس النواب. تسمع وتشاهد إدعاءً وادعاءً مضاداً، لا يعبآن كثيراً بنقاش الأدلة أو بحث جديتها وخطورتها أو تقديم أدلة مضادة، بقدر ما هي رغبة كل طرف في تعزيز المواقع المكتسبة وإحداث ما أمكن للإمساك بكل مفاصل السلطة، أو اختراق مواقع الخصم إما بتقويضه أو غلبته أو الهيمنة عليه. 

الديمقراطية تتحول وتتغير بطريقة مخيفة. فبعد أن كانت الديمقراطية في الولايات المتحدة سمة ثقافية وهوية مجتمعية وضابطة خلقية لكل فعل سياسي وممارسة سلطة في القرن التاسع عشر، وفق ما عبر عن ذلك ألكسي دو توكفيل في كتابه الشهير "الديمقراطية في أميركا"، تتفاجأ الآن كيف أصبحت العملية الديمقراطية مجرد قواعد شكلية وتقنيات إجرائية لتنظيم النقاش الداخلي ومنعه من التحول إلى مواجهة مسلحة. فمن دون السلاح، كل شيء مسموح ومباح بما فيها الحروب الكلامية والإهانات الشخصية والمواجهة الثقافية والاصطفاف الحاد الذي يستبيح استعمال كل الأوراق المفيدة في لعبة الصراع على السلطة، حتى لو كان مسوغها الأخلاقي والخلقي محل إشكال كبير، بل حتى لو أدى ذلك إلى انقسامات مجتمعية حادة وخطيرة.  بعد أن كانت الديمقراطية منطلقاً لتأسيس الأمة ووحدتها وتماسكها، تكاد تكون الديمقراطية في أميركا شاهداً محايداً وأعزل على انقسامها وربما على تصدعها.  

فجَّرَ الجدلُ الحاليُ حول عزل ترامب تناقضات وتباينات خطيرة في الداخل الأمريكي، سواء أكان في مجتمعه السياسي، أو شخصياته النخبوية، أو مكوناته الاجتماعية والثقافية. ما يشي بأنه تحت سطح النقاش والسجال الدائرين، تجد نفسك أمام أميركا منقسمة على نفسها بين عقلين وهويتين ومنطقين متباينين بل متناقضين:

بين هوية تنزع إلى الحفاظ على مكوناتها التأسيسية الأولى التي  تتمحور حول هيمنة العرق الأبيض وتفوقه وسيادة الثقافة والقيم وحتى المباديء الدينية التي اعتنقها واعتمدها، وترى فيها أساساً وسبباً لتفوق أميركا وقوتها وازدهارها، وتعتبر أن أي انزياح عنها يكون بمثابة نهاية لأميركا نفسها ونشوء أمة أخرى.  وبين هوية أخرى التقطت المتغيرات الديمغرافية ومقتضيات العولمة، لتطرح هوية تقوم على القيم الأمريكية الجامعة التي لا ترتبط بعرق أو دين أو تاريخ خاص بقدر ما تجسد نمط حياة ومعايير سلوك ومبادئ حقوق كلية. هو تنافس بين هوية ترى في الماضي التأسيسي الأول حقيقتها وجوهرها وسر بقائها وتفوقها، وهوية ترى ضرورة العبور إلى هوية شاملة Inclusive لكل مواطنيها تتسع للجديد وتهضم المتغيرات المتسارعة بسلاسة.

بين ليبرالية كلاسيكية تريد اعتماد مبدأ "الدولة بالحد الأدنى" وفق فلسفة آدم سميث القائلة بإطلاق المبادرة الفردية إلى أقصاها لتحقيق الإزدهار والرفاه الإقتصادي. وهو لا يكون إلا بتخفيض الضرائب ورفع القيود على حركة رأس المال ليحقق النشاط الإقتصادي الحر غايته الوطنية في زيادة الناتج القومي وإلغاء البطالة وتعميم فائدة الوفرة الاقتصادية على الجميع بمن فيهم الطبقات الفقيرة.  وبين ليبرالية ذات خلفية كينزية، ترى العدالة الإجتماعية ودولة الرفاه Welfare state أساساً لأي نشاط اقتصادي عام، تكون الأولوية فيها لعدالة التوزيع والخدمات الاجتماعية وصلاحية الدولة في تقليص الفجوة المخيفة بين الأغنياء والفقراء. هو فارق بين ليبرالية تعتبر الزيادة المستمرة في الإنتاج والنماء الدائم للاقتصاد أساس كل سياسة وصناعة قرار، ووسيلة ناجعة في إلغاء الفقر والعوز. وبين ليبرالية أخرى هاجسها المضمون الاجتماعي والخوف الشديد من تبعات تكثف الثروة بيد حفنة قليلة من الأغنياء.

بين رؤية لنظام سياسي تُبَرِّرُ فيها النتائجُ الماديةُ والإنجازاتُ الاقتصاديةُ الوسائلَ المشبوهةَ والانتهاكاتِ الأخلاقية واللعب على فراغات الدستور وثغرات القانون،  أي رؤية ترى العبرة بالنتائح لا بالطرق والوسائط، بالقدرة على الحسم وفرض الموقف لا الإلتزام الحرفي بالنصوص. وبين رؤية أخرى تشدد على الالتزام الصارم بالمباديء الدستورية المؤسسة للأمة الامريكية، وتفعيل مبدأ توازن السلطات للحد من توحش الطبقة الرأسمالية، ومنع ظهور حكم فرداني متضخم أو نشوء ظاهرة استبداد غير مسبوقة في تاريخ السياسة الأمريكية.

بين مفهوم أمة يشدد على تضخيم الشعور الوطني بفرادتها وعلى عزلتها وتكثيف فائض القوة لديها بفرض ترتيبات والتحلل الاعتباطي من التزامات دولية خطيرة وفرض عقوبات مزاجية على الدول القريبة والبعيدة، الصديقة والعدوة معاً.   وبين مفهوم أمة يرى أن الاستقرار والرفاه والسلم بات شأناً دولياً يتحقق بالتكافل والتضامن العابر للحدود. إنه فارق بين مفهوم التفرد بالبقاء للأقوى، وبين مفهوم البقاء والاستمرار معاً.

ما يحصل الآن، ليس سببه مجيء شخص إلى سدة الرئاسة اسمه دونالد ترامب، بقدر ما هو ثمرة عدم جدية الأمة الأمريكية في مبادئها التأسيسية لعقود ممتدة، وتساهلها وتراخيها في مسألة الحقوق الفردية والجمعية في الداخل والخارج بخاصة الحقوق الطبيعية غير القابلة للانتزاع التي ذكرت في مقدمة الدستور، ووهم التفرد بقيادة العالم الذي تولد لديها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، يضاف إلى ذلك التجويف المستمر للكائن الإنساني الذي أحدثه منطق السوق والمنافسة وثقافة الإستهلاك لأجل الإستهلاك والنهم غير المنضبط واللاأخلاقي في تكديس ومراكمة الثروة. 

المشهد الحالي يضع أميركا أمام مفترق طرق: إما ديمقراطية رفاه تجعل الوفرة المالية والقوة المادية الغاية القصوى للحياة السياسية، وإما رفاه الديمقراطية التي تجعل الديمقراطية نفسها أساساً وغاية لكل نشاط عام.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها