حجم الخط
مشاركة عبر
غواية إطلاق أحكام عامة، بعد الانتخابات البريطانية الأخيرة، تبدو عصية على المقاومة. يوماً بعد يوم، تتراجع أهمية القوى العظمى العجوز، حتى أضحت شؤونها السياسية خبراً محلياً من الدرجة الثانية، لا يجد مكانه في الصفحات الأولى سوى بفضل الدراما المحتدمة في كواليسها، بحسٍّ كوميدي بارد ومسلٍّ. لكن قضية البريكزت وتأثيرها المحتمل في مستقبل الاتحاد الأوروبي، وصعود كوربين وسياساته ذات النكهة الراديكالية، ثم سقوطه المدوي، جعل من نتائج الانتخابات مبرراً كافياً لإطلاق أحكام من نوعية "صعود اليمين" و"نهاية اليسار".
يفضل اليساريون صيغاً أممية بالطبع، أما وسائل الإعلام، والمحللون الجاهزون دائماً لصياغة النظريات الجامعة، فيميلون هم أيضاً للحديث عن الموجات، الإقليمي منها والعالمي. لكن هل تكشف النتائج تقدّم اليمين الشعبوي في أوروبا، كما ذهب البعض؟ وهلل تتكرر هذه النتائج في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ هل أضحى موقع اليسار فعلاً على مبعدة من مصالح الطبقة العاملة، وأقرب إلى طبقات وسطى في مدن معولمة؟ أم كانت الكوربينية هي المحاولة الأخيرة لليسار الراديكالي لطرح أجندة جذرية ذهبت بلا رجعة؟
تحمل كل تلك الأسئلة ومنطلقاتها الكثير من المنطق والمبررات المقنعة، لكن نظرة مقربة من النتائج تعطينا ربما تصوراً مختلفاً قليلاً، عن معنى الفوز الكاسح للمحافظين. فقد صوَّت أكثر من نصف الناخبين لأحزاب اليسار والوسط، وزاحم حزب "الخضر" و"الأحرار"، حزب العمال، في دوائر كانت المنافسة محتدمة فيها بينه وبين المحافظين، وصب ذلك في مصلحة المحافظين. هي عوامل التكتيك التصويتي، وغياب التنسيق بين الأحزاب المعارضة للبريكزيت الخشن، التي سبّبت ضياع نسبة معتبرة من مقاعد بدت مضمونة للعمال، وليست الإيديولوجيا ولا حتى البرنامج السياسي. اللافت للانتباه كان انهيار أقصى اليمين، فحزب البريكزت، وريث حزب الاستقلال، خسر شعبيته بشكل كاسح وربما نهائي. ويهنيء المحافظون أنفسهم بلا شك، فاستراتيجية بوريس جونسون الحاسمة وبرنامجه الواضح بخصوص الخروج من أوروبا بأي ثمن وبسرعة، كانت انتصاراً لفكرة الديموقراطية واحترام نتائج الاستفتاء الشعبي. وبالتالي قطع الطريق على أقصى اليمين وخطابه الشعبوي. فهل أزاح جونسون الثقل السياسي ناحية الوسط؟
عانى كل من الحزبين الكبيرين، انقساماً عميقاً بخصوص البريكزت، على مستوى القيادات وعلى مستوى القواعد الجماهيرية، وكانت إدارة هذا الصراع الداخلي وحسمه، من أهم العوامل التي حددت نتائج التصويت. تنازل كوربين، ودائرته القريبة المؤيدة للخروج في السابق، عن موقفهم الراديكالي، واختار حزب العمال موقفاً متذبذباً، بدا لأنصار الخروج وكأنه ميلٌ إلى البقاء، فيما بدا لأنصار البقاء وكأنه رغبة مكبوتة لتأييد الخروج. خسر العمال أصواتاً من المعسكرين، لكن الأكيد هو أن الحزب وجد نفسه مضطراً لأن يأخذ أرضية الوسط بخصوص البريكزت، ليضحى قادراً على الدفع ببرنامج اجتماعي جذري.
في الجانب الآخر، حسم جونسون الخلاف حول السؤال الأوروبي، لترجيح كفة الخروج الخشن، لكن تلك الحدة تطلبت موازنة من نوع ما. قدم المحافظون، في المقابل، برنامجاً يتمحور حول زيادة الإنفاق، والاستثمار في الخدمات العامة، وضخ المزيد من الموارد في القطاع الصحي والتعليم الأساسي والشرطة. وبغض النظر عن مدى التزام المحافظين بتلك الوعود مستقبلاً، فالمدهش هو أن حزب المحافظين "التقشفي" بالتعريف، خاض الانتخابات ببرنامج يَعِد بالتوسع في الإنفاق. دفع جونسون حزبه نحو موقف جذري بخصوص الهجرة، أكثر تقدمية من حزب العمال نفسه. وعد، على سبيل المثال، بتوفيق أوضاع مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، ومنحهم عفواً عاماً، وكان ذلك مطلباً عارضته حكومات العمال السابقة. ووعد أيضاً بإلغاء الحد الأقصي لعدد المهاجرين سنوياً والذي وضعته حكومة المحافظين السابقة، مفضلاً سياسة مرنة للهجرة تحددها الاحتياجات الحقيقية في سوق العمل أكثر من الايديولوجيا الجامدة.
دفعت اتهامات بمعاداة السامية، طاولت العمال، ومثلها بالاسلاموفوبيا للمحافظين، كلا الحزبين لمقاربة أكثر حرصاً لملف الأقليات، وطرح كلاهما خطاباً أكثر انفتاحاً واتزاناً وحساسية. ربما لا تكون تلك الإزاحة ناحية الوسط، علامة ايجابية بالضرورة. فهي، كما تعني الحد من تأثير الخطابات اليمينية المقلقة، تعني في الوقت ذاته عرقلة أي مشاريع جذرية. لكن، في النهاية، تبدو تلك الإزاحة وقتية ومعتادة ومتوقعة، في مخطط للسياسة البريطانية له تاريخ طويل من التذبذات إلى أعلى وإلى أسفل، والتأرجح بين اليمين واليسار، وهو كان ولايزال جوهر فكرة الديموقراطية كما نعرفها اليوم، بوصفها عملية لا تتسم بالكمال، مزاجية وفي حالة من التردد الدائم.
يفضل اليساريون صيغاً أممية بالطبع، أما وسائل الإعلام، والمحللون الجاهزون دائماً لصياغة النظريات الجامعة، فيميلون هم أيضاً للحديث عن الموجات، الإقليمي منها والعالمي. لكن هل تكشف النتائج تقدّم اليمين الشعبوي في أوروبا، كما ذهب البعض؟ وهلل تتكرر هذه النتائج في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ هل أضحى موقع اليسار فعلاً على مبعدة من مصالح الطبقة العاملة، وأقرب إلى طبقات وسطى في مدن معولمة؟ أم كانت الكوربينية هي المحاولة الأخيرة لليسار الراديكالي لطرح أجندة جذرية ذهبت بلا رجعة؟
تحمل كل تلك الأسئلة ومنطلقاتها الكثير من المنطق والمبررات المقنعة، لكن نظرة مقربة من النتائج تعطينا ربما تصوراً مختلفاً قليلاً، عن معنى الفوز الكاسح للمحافظين. فقد صوَّت أكثر من نصف الناخبين لأحزاب اليسار والوسط، وزاحم حزب "الخضر" و"الأحرار"، حزب العمال، في دوائر كانت المنافسة محتدمة فيها بينه وبين المحافظين، وصب ذلك في مصلحة المحافظين. هي عوامل التكتيك التصويتي، وغياب التنسيق بين الأحزاب المعارضة للبريكزيت الخشن، التي سبّبت ضياع نسبة معتبرة من مقاعد بدت مضمونة للعمال، وليست الإيديولوجيا ولا حتى البرنامج السياسي. اللافت للانتباه كان انهيار أقصى اليمين، فحزب البريكزت، وريث حزب الاستقلال، خسر شعبيته بشكل كاسح وربما نهائي. ويهنيء المحافظون أنفسهم بلا شك، فاستراتيجية بوريس جونسون الحاسمة وبرنامجه الواضح بخصوص الخروج من أوروبا بأي ثمن وبسرعة، كانت انتصاراً لفكرة الديموقراطية واحترام نتائج الاستفتاء الشعبي. وبالتالي قطع الطريق على أقصى اليمين وخطابه الشعبوي. فهل أزاح جونسون الثقل السياسي ناحية الوسط؟
عانى كل من الحزبين الكبيرين، انقساماً عميقاً بخصوص البريكزت، على مستوى القيادات وعلى مستوى القواعد الجماهيرية، وكانت إدارة هذا الصراع الداخلي وحسمه، من أهم العوامل التي حددت نتائج التصويت. تنازل كوربين، ودائرته القريبة المؤيدة للخروج في السابق، عن موقفهم الراديكالي، واختار حزب العمال موقفاً متذبذباً، بدا لأنصار الخروج وكأنه ميلٌ إلى البقاء، فيما بدا لأنصار البقاء وكأنه رغبة مكبوتة لتأييد الخروج. خسر العمال أصواتاً من المعسكرين، لكن الأكيد هو أن الحزب وجد نفسه مضطراً لأن يأخذ أرضية الوسط بخصوص البريكزت، ليضحى قادراً على الدفع ببرنامج اجتماعي جذري.
في الجانب الآخر، حسم جونسون الخلاف حول السؤال الأوروبي، لترجيح كفة الخروج الخشن، لكن تلك الحدة تطلبت موازنة من نوع ما. قدم المحافظون، في المقابل، برنامجاً يتمحور حول زيادة الإنفاق، والاستثمار في الخدمات العامة، وضخ المزيد من الموارد في القطاع الصحي والتعليم الأساسي والشرطة. وبغض النظر عن مدى التزام المحافظين بتلك الوعود مستقبلاً، فالمدهش هو أن حزب المحافظين "التقشفي" بالتعريف، خاض الانتخابات ببرنامج يَعِد بالتوسع في الإنفاق. دفع جونسون حزبه نحو موقف جذري بخصوص الهجرة، أكثر تقدمية من حزب العمال نفسه. وعد، على سبيل المثال، بتوفيق أوضاع مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، ومنحهم عفواً عاماً، وكان ذلك مطلباً عارضته حكومات العمال السابقة. ووعد أيضاً بإلغاء الحد الأقصي لعدد المهاجرين سنوياً والذي وضعته حكومة المحافظين السابقة، مفضلاً سياسة مرنة للهجرة تحددها الاحتياجات الحقيقية في سوق العمل أكثر من الايديولوجيا الجامدة.
دفعت اتهامات بمعاداة السامية، طاولت العمال، ومثلها بالاسلاموفوبيا للمحافظين، كلا الحزبين لمقاربة أكثر حرصاً لملف الأقليات، وطرح كلاهما خطاباً أكثر انفتاحاً واتزاناً وحساسية. ربما لا تكون تلك الإزاحة ناحية الوسط، علامة ايجابية بالضرورة. فهي، كما تعني الحد من تأثير الخطابات اليمينية المقلقة، تعني في الوقت ذاته عرقلة أي مشاريع جذرية. لكن، في النهاية، تبدو تلك الإزاحة وقتية ومعتادة ومتوقعة، في مخطط للسياسة البريطانية له تاريخ طويل من التذبذات إلى أعلى وإلى أسفل، والتأرجح بين اليمين واليسار، وهو كان ولايزال جوهر فكرة الديموقراطية كما نعرفها اليوم، بوصفها عملية لا تتسم بالكمال، مزاجية وفي حالة من التردد الدائم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها