الثلاثاء 2019/11/12

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

أكراد ومرتزقة

الثلاثاء 2019/11/12
أكراد ومرتزقة
Getty©
increase حجم الخط decrease
في الثاني من الشهر الحالي ضربت سيارة مفخخة مدينة تل أبيض التي كانت القوات التركية قد سيطرت عليها، الانفجار أودى بعشرات المدنيين بين قتلى وجرحى. ما لفت الانتباه حينها أن فضائية روناهي أوردت الخبر بصياغة تنص على أن القتلى والجرحى من المرتزقة، في تجاهل تام لواقع الضحايا المدنيين من جهة، وفي تبرير للعمل الإرهابي من جهة أخرى، أو بالأحرى ما يُستشف منه تبنياً للمسؤولية عن التفجير. جدير بالذكر أن فضائية روناهي من أهم الأذرع الإعلامية لمنظومة حزب العمال الكردستاني، وهي لم تعتذر عن طريقة إيراد الخبر لاحقاً، لكنها تحاشت تكرار تلك الصيغة في نقلها يوم العاشر من هذا الشهر خبر سيارة مفخخة ضربت بلدة "سلوك" التابعة لتل أبيض، بينما تولى أنصار المنظومة الاحتفاء به على صفحتها في فايسبوك.

يلفت الانتباه أن أحداً ممن يقدّمون أنفسهم كإعلاميين أكراد مستقلين لم يبادر إلى إدانة نشر الخبر بتلك الطريقة من قبل قناة روناهي، وهي صياغة ترتقي إلى تبني الإرهاب، وفي حدها الأدنى جريمة تحريض على الكراهية، وفي الحالتين تعتبر المدنيين هدفاً مشروعاً. لم يبادر إلى إدانة الجريمة أحد على الإطلاق أيضاً من الأكراد الذين واظبوا على مطالبة نظرائهم العرب بالتضامن مع المظالم الكردية، مع أننا في العديد من المناسبات شهدنا استنكار أولئك العرب انتهاكات الفصائل التابعة لأنقرة، ومنها التقاط صورة مع مقاتلة كردية أسيرة اعتُبر تصويرها انتهاكاً لمواثيق حقوق الإنسان والمواثيق المتعلقة بمعاملة الأسرى.

أكثر من ذلك، سنرى من بعض الأكراد مسارعة لضخ أخبار انتهاكات الفصائل التابعة لأنقرة بالتزامن مع التفجيرات التي تطال المدنيين في تل أبيض أو سلوك، وهو فعل يفضح المقايضة المضمرة حيث يبرر انتهاك هنا انتهاكاً من الجهة الأخرى هناك، فلا يحكم منطق التعاطف مع الضحايا بل منطق الثأر الذي يذهب المدنيون ضحيته على الطرفين. محاولة طمس الجريمة بأخبار جريمة مقابلة أمر بات معتاداً بدوره، وهو أبشع استغلال للضحايا المدنيين من كافة الأطراف، لأنه بدل الانتصار للضحية ينتصر على ضحية أخرى مماثلة.

بالطبع يُستخدم وصف "المرتزقة"، في هذا السياق، لتجريد الضحايا المدنيين من حقوقهم كضحايا، ولقد شهدنا خلال سنوات التراشق به بين عرب وأكراد. لكن ما يهمنا الآن ليس أصحاب الغرائز المتلهفين لهدر الدماء، وإنما الشرائح الأقل غرائزية، والتي سرعان ما تنحدر إلى الحضيض الغرائزي نفسه، وقد تسببت سهولة الانحدار في تشويه قضايا قامت أصلاً على مقاصد نبيلة. من الجيد هنا أن نسترجع نقاشاً عربياً ثار قبل عقود حول العمليات الفلسطينية التي تستهدف مدنيين إسرائيليين، فقد برز تيار "وإن كان يخالف السائد حينها" يدين حتى استهداف المستوطنين المدنيين، بعدّه غير مقبول إنسانياً، وغير ذي جدوى سياسياً. حتى التصويب على داعش، مع الاحتفاء باستهداف المدنيين من قبل جهات أخرى، يغدو نوعاً من الاستثمار الانتهازي، لأن تصنيف داعش الإرهابي أتى على خلفية استهدافه المدنيين، وهناك مئات من التنظيمات الإسلامية العالمية سواه خارج لوائح الإرهاب.

إذا أخذنا الأمر من وجهة منظومة حزب العمال الكردستاني، إن تقديم خطاب مناهض للإرهاب للغرب وكسب تعاطفه لن يخدم القضية الكردية عندما يترافق بممارسة الإرهاب أو الاحتفاء به داخلياً. حتى لو انطلت ازدواجية الخطاب على الغرب فهو في أي وقت لن يتطوع لإيجاد حل للقضية الكردية، الحل الآن وبعد مئة عام سيكون بين أبناء المنطقة أنفسهم، والغرب لا يتدخل إلا لأجل مصالحه الملحة والمؤقتة وضمن ميزان دقيق لها، ولقد رأينا موقف الغرب من استفتاء إقليم كردستان العراقي على الاستقلال ورأيناه من خلال الموافقة على الاجتياح التركي لعفرين وبعدها المنطقة الواقعة بين رأس العين وتل أبيض. كان السوريون عموماً قد اختبروا المواقف الغربية التي ظهرت داعمة لثورتهم أكثر مما هي داعمة للأكراد، وعاشوا الخذلان نفسه أو أعمق لأن الغرب لم يتدخل لحمايتهم، ولم يسمح لهم بالحصول على أسلحة فعالة، بينما كانوا يتعرضون لأسوأ أنواع الإبادة والتهجير.

خارج تلك المنظومة شديدة الانضباط، من المؤسف أننا لا نرى أصواتاً مستقلة وفاعلة، ومن المؤسف جداً أن المقارنة بين الجهتين لا تميل لصالح الأكراد. خلال سنوات كنا نشهد تزايداً في انتقادات العرب للفصائل التي تسيطر على المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، وهذه الانتقادات لم توفر معظم الفصائل. في الوقت نفسه كنا نشهد تعاظم الانتقادات الموجهة للمعارضة السياسية، حتى وصلنا إلى ما يمكن تسميته بانفضاض عام عنها ولم تعد تمثل سوى نفسها وداعميها الخارجيين. 

في الشق الكردي تحديداً، عندما بدأ الغزو التركي لعفرين هناك الكثير من الأصوات العربية التي أدانت الغزو، وأدانت لاحقاً انتهاكات الفصائل المشاركة فيه في حق المدنيين. هذا الميل رأيناه يزداد مع تزايد عدد رافضي الغزو التركي الأخير، رغم أن بينهم من ينحدر من تلك المناطق وكان قد تأذى من انتهاكات وحدات الحماية الكردية. وإذا كان رفض الغزو آتياً من آثاره الكارثية على المدنيين فذلك لا يقلل من شأنه، إذ ليس المطلوب اتفاقاً في السياسة، بل إن أي اتفاق في السياسة على حساب أرواح المدنيين هو ما يجب وضعه تحت المساءلة.

مؤسف حقاً، خلال سنوات ماضية، أننا افتقدنا أصواتاً كردية ترفض انتهاكات وحدات الحماية في حق السكان غير الأكراد، وكلما تحدث أحد عنها كان يُواجه بالإنكار أو بالصمت، وفي أحسن الأحوال إنكار الطابع العرقي لها. قلائل من الأكراد تحدثوا عن انتهاكات الوحدات في حق معارضيها الأكراد فقط، وجزء من ذلك أتى على خلفية التباينات الحزبية لا على خلفية الاحترام العام لحقوق وحريات الجميع. إنكار الضحايا الآخرين وكأن الأكراد هم الضحايا فقط، فوق ما فيه من اعتداء على مظالم أخرى، لن يفيد سوى في الاقتتال على موقع الضحية بدل تجنيب ضحايا جدد مصيرها البائس.

منطق الكيد قد يبادرنا بالسؤال عما إذا كان وضع العرب أحسن حالاً من نظرائهم الأكراد؟ من المؤسف أن تكون الإجابة بنعم، والمقارنة في الأصل لا تذهب إلى المفاضلة بين جمهور غرائزي موجود في الجانبين، هي بين شرائح يُفترض بها رؤية ما هو أبعد من غرائزها. هناك اليوم عرب سوريون مؤيدون لقسد ولو كانوا قلة، وهناك عرب سوريون مناصرون للقضية الكردية ولو كانوا قلة، وهناك عرب سوريون مختلفون على مختلف القضايا لا في الشأن الكردي وحده، وهذا مؤشر جيد. تستحق القضية الكردية في سوريا أن نرى أكراداً ينتصرون لها بالمعنى الإنساني الأخلاقي أولاً، المعنى الذي ينتصرون به لها وللضحايا بصرف النظر عن منابتهم الإثنية، حتى لو كانوا قلة في البداية، فهذا هو شأن البدايات إن أتت في وقتها أو تأخرت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها