الثلاثاء 2019/10/29

آخر تحديث: 15:31 (بيروت)

مقتل البغدادي: الإمبراطورية تتألق

الثلاثاء 2019/10/29
مقتل البغدادي: الإمبراطورية تتألق
increase حجم الخط decrease

في غرفة العمليات بالبيت الأبيض، تابع ترامب مع نائبه ووزير الدفاع الأميركي ومستشار الأمن القومي، ولمدة ساعتين تقريبا، عملية قنص البغدادي. العملية التي شارك فيها بالإضافة إلى وحدة "دلتا فورس"، دعم من الطائرات والسفن الحربية تم نقلها ببث حي، أو كما قال الرئيس نفسه، "كما لو كنت تشاهد فيلماً سينمائياً". كانت هذه "ليلة عظيمة للولايات المتحدة وللعالم"، فزعيم داعش قبل أن "يموت ميتة الكلاب والجبناء" كان "يصرخ وينوح"، أما عن القوات الأميركية، فلم يُصب سوى "كلب حراسة بارع".

بعيداً من الدراما، تبدو التبعات العملية لمقتل البغدادي محدودة، لكنها بلا شك تشكل نصراً معنوياً كبيراً لترامب وإدارته. فالإدارة التي اتهمها خصومها بالتخبط خارجياً، وبالأخص في الشرق الأوسط، حظيت بفرصة استثنائية للتباهي بانتصاراتها ونجاح استراتيجيتها، ليس فقط في هزيمة داعش، بل أيضاً بقتل زعيمها "محشوراً في نفق" مع ثلاثة من أطفاله وعدد من رجاله.

يتجاوز الأمر مجرد الدعاية الداخلية مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، فالأهم هو دلالتها في ما يخص مدى التمدد الإمبراطوري الأميركي أو تراجعه. فالعملية تمت في سوريا، التي انسحب منها ترامب قبل أسابيع قليلة، وفي منطقة يسيطر الروس على مجالها الجوي، ويشكرهم ترامب على تعاونهم بالطبع، فهم سمحوا للعملية بأن تتم من دون حتى أن يعرفوا هدفها. وأثنى ترامب أيضاً على تركيا والعراق والأكراد الذين زودوا الأميركيين بمعلومات مهمة. هكذا، لا يبدو الانسحاب الأميركي الذي ثارت حوله ضجة عالية، انسحاباً في الحقيقة، أو ربما يمكن الادعاء بأن الإمبراطورية وصلت إلى لحظة هيمنتها القصوى، إلى الحد الذي لم تعد معه هناك حاجة لتواجد قواتها على الأرض. لا يعود الفضل للإدارة الأميركية الحالية في الوصول إلى تلك الحالة من التألق الإمبراطوري، فهي قد ورثت من سابقاتها شبكة محكمة من الهيمنة العالمية.

تنجح سياسات ترامب الابتزازية والمتخبطة أحياناً، بقصد أو دون قصد، في الكشف عن مدى رسوخ الهيمنة الأميركية. فالإعلان عن رغبة الولايات المتحدة في التوقف عن القيام بدور شرطي العالم والانسحاب من الشرق الأوسط تحديداً، قوبل بحملة من الانتقاد، سواء من الديموقراطيين في الداخل أو وسائل الإعلام على مستوى عالمي. قطاعات واسعة، تتجاوز تقسيمة اليمين واليسار، في الغرب وفي المنطقة، تجد نفسها مضطرة للاعتراض على التخارج الأميركي. سياسات التدخل العسكري التي كانت في الماضي هدفاً للاحتجاجات، وكانت مقاومتها شعاراً عالمياً، أضحت اليوم على رأس أجندة حركات تقدمية ويسارية حول العالم تطالب الولايات المتحدة للقيام بدور شرطي العالم وتنتقد ترامب بشدة لتخليه عن هذا الدور.

على أرض الواقع، لا يظهر أن الولايات المتحدة قد تخلت عن الإمساك بمقاليد الأمور، لكن المختلف هو أنها لم تعد في حاجة لفرض وجودها بالقوة، بل يتم توسله من الآخرين وكذا الدفع بسخاء مقابله. في الخليج، يتضخم الوجود الأميركي بمعدلات غير مسبوقة، في خضم منافسة محمومة بين دوله لبناء القواعد الجديدة، فمساحة الفراغ المحدودة التي تركتها الولايات المتحدة والتهديد بالمزيد منها، أثارت حالة عارمة من الذعر. تتخلى إدارة ترامب عن الغطاء الأخلاقي، الذي استثمرت فيه الولايات المتحدة على مدى عقود، سواء أثناء الحرب الباردة أو بعدها، لم تعد الإمبراطورية من فرط هيمنتها في حاجة للتظاهر بأي دعاوى إنسانية أو ديموقراطية، بل العكس تهين كل تلك القيم عمداً، لتثبت أن سيادتها مطلقة، بل ويطالب الآخرين ببسطها.

كما في حربه مع الصين، لا يحتاج ترامب إلى التلويح بالقوة في المنطقة، سواء في مواجهة إيران أو حتى تركيا. تكفي الإجراءات الاقتصادية أو مجرد التهديد بها. الإمبراطورية لا تحتاج للتواجد على الأرض بعد الآن، بل ولا حتى لاستخدام القوة. تكفي استعراضات صغيرة لقنص المارقين من بُعد، لتذكرينا بتلك القوة وبأذرعها طويلة وقدراتها شبه المطلقة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها