بداية، في مكافحة الفساد، من الضروري الإلتفات إلى أن الحريري لم يتحدث عن خطوات جذرية، بل شكلية ومؤجلة. جاء في خطاب رئيس الحكومة الآتي: "إعداد مشروع قانون إستعادة الأموال المنهوبة، وسنطلب من المحامين التعاون معنا، قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد".
وإعلانه هنا بمثابة تأجيل حتمي لمكافحة الفساد، وعلى دفعتين: الأولى من خلال إعداد مشروع قانون، وهذا يتطلب وقتاً طويلاً. والثانية هي استشارة المحامين، وهذه فئة مبهمة وغير محددة، وتعني وفق قاموس السياسيين فرق المحاماة التابعة لهم. وهاتان خطوتان تُرجئان مكافحة الفساد لفترة طويلة، ما يعني عملياً عدم حصوله.
على سبيل المثال، كان بإمكان الحريري إحالة مشروع "قانون استقلال القضاء وشفافيته" الذي أعدته "المفكرة القانونية"، وفيه آليات محددة لضمان الاستقلالية، وعلى رأسها اعتماد الانتخاب الداخلي لا التعيين، إلى البرلمان لإقراره. وهذا المشروع يحظى بتأييد قسم من القضاة، ممن ضاقوا ذرعاً بالتدخلات السياسية على مدى العقود الماضية. لكن إطلاق يد القضاء قد يُطيح برؤوس كبيرة وصغيرة، ويجعله عملياً خارج السيطرة السياسية، لذا فضلت الطبقة السياسية الحالية عدم الأخذ به.
وهذا الأسلوب الملتوي في التعاطي مع الشأن العام ينسحب أيضاً على مكافحة التهريب. المضحك المبكي أن الحكومة اللبنانية تريد مكافحة التهريب من خلال تركيب "سكانرز" على النقاط الحدودية. هل التهريب عبر الحدود مشكلة تقنية أم بشرية-مؤسساتية، على ارتباط بالفساد المستشري بالجهات المعنية بوقفه؟ أليس وقف التهريب مرتبطاً جذرياً بإصلاح القضاء اللبناني، ووقف التعيينات السياسية فيه، ومن ثم تفعيل الهيئات الرقابية وفصلها تماماً عن السلطة؟ نعم هو كذلك، لكن الحريري وحكومته قرروا التهرب والتنصل من الإصلاح في هذا المجال، لا بل تحدث علناً عن "تعيين الهيئات الناظمة"، وهو يعني حكماً تسييسها وافراغها من مضمونها المرتجى.
ومن الإجراءات الجديدة للحكومة، خفض عجز الموازنة بنسبة عالية وغير منطقية، من 7.6٪ لأن تكون "0.6 ٪ ومن دون أي ضرائب جديدة على الناس". كيف سيحصل ذلك؟ بحسب رئيس الحكومة، يُساهم "مصرف لبنان" والمصارف الخاصة "بخفض العجز 5 ألاف ومئة مليار ليرة"، واجراءات أخرى منها "خفض 50 بالمئة من رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين، خفض موازنة مجلس الإنماء والإعمار 70 في المئة"، والغاء وزارة الاعلام و"وضع خطة لإلغاء المؤسسات غير الضرورية".
هل تستطيع الحكومة فرض هذا القرار على المصارف التي تعاني من نقص في الودائع نتيجة الوضع المالي الحالي؟ ولماذا لم تُلغ هذه المجالس أو "المؤسسات غير الضرورية" كما سماها الحريري، والتي تضم "الانماء والاعمار" و"الجنوب" نهائياً، بما أن هناك وزارة اسمها "الأشغال" تضطلع بالمهام ذاتها؟ هذا تأجيل يهدف لعدم التنفيذ.
«يُضاف إلى ذلك أن إعلان الحريري ضم باقة من جوائز الترضية للناس في الشا«رع منها "تقديم 160 مليون دولار لدعم القروض السكنية"، وهذا غير كاف لأن دعم شراء ألف وحدة سكنية لن ينتشل القطاع العقاري من أزمته العميقة.
كانت "إصلاحات" رئيس الحكومة اللبنانية موجهة إلى "سيدر"، وليس للمتظاهرين، وهي غير كافية سوى لإقناع الشارع بضرورة الاستمرار في التظاهر لأن هذه الطبقة السياسية الفاشلة غير قادرة على إصلاح نفسها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها