السبت 2019/10/19

آخر تحديث: 07:54 (بيروت)

سوريا بعد "نبع السلام"

السبت 2019/10/19
سوريا بعد "نبع السلام"
Getty©
increase حجم الخط decrease

لا تُعرف بعدُ آفاق تنفيذ الاتفاق الذي عُقد بين أردوغان ونائب الرئيس الأمريكي، ما يبدو مؤكداً أن أنقرة ستنال المنطقة التي تم الاتفاق عليها أصلاً بعد إجلاء مقاتلي قسد، وأن واشنطن ماضية في سحب قواتها من سوريا. التصعيد بين واشنطن وأنقرة ثم الاتفاق بينهما استهلكا نسبة عالية من الاهتمام، وكالمعتاد مع كل حدث ساخن يتركز الانتباه على مجرياته وعلى ردود الأفعال، من دون انتباه كافٍ إلى المسكوت عنه في المعمعة الحاصلة. هكذا هو الحال أيضاً مع بدء الغزو التركي لشريط حدودي شرق الفرات، والتطورات المتسارعة "والمتناقضة أحياناً" التي رافقته، ما أكسبه قوة دراماتيكية قائمة على عدم معرفة مآل ما يجري.

في خضم كل ما حدث ويحدث، المسكوت عنه هو الملف السوري الأصلي، فلا أحد من القوى المعنية بتطورات العملية التركية أتى على المسألة السورية ككل، باستثناء أطراف أستانة وكل طرف منها لاعتباراته وأهدافه الخاصة. أنقرة، التي أكدت على أن عمليتها لن تضر بوحدة الأراضي السورية، تبعث برسالة طمأنة إلى حليفيها في أستانة، كما أن التأكيد على وحدة وسيادة دول المنطقة يصب في التصدي التقليدي للمطالب الكردية. موسكو وطهران من جهتهما تؤكدان على الجانب نفسه للجم الطموحات التركية المتعلقة بطرح المنطقة الآمنة أولاً، ومن ثم تنبيه أنقرة إلى أن الموافقة على وجودها في شريط حدودي مؤقتة ومشروطة بوحدة وسيادة سوريا التي تعني من وجهة نظر الدولتين إعادة ذلك الشريط إلى بشار الأسد الموجود تحت وصايتيهما.

لا يصعب، بتتبع ردود الأفعال الأمريكية والغربية، الانتباه إلى غياب أدنى نقاش حول تأثير الانسحاب الأمريكي على المسألة السورية ككل. الجدل الداخلي الأمريكي انحصر حول أخلاقية التخلي عن الأكراد، ومدى تأثير ذلك لاحقاً على صورة أمريكا، وهو جدل لم نشهد مثيلاً له عندما تخلى أوباما عن خطه الأحمر الشهير المتعلق باستخدام بشار السلاح الكيماوي، وهذا على الأغلب يرجع إلى الجدل الداخلي المزمن حول سياسات ترامب وشخصه. أيضاً المواقف الأوروبية تمحورت حول الشق الكردي مما يحدث، وحول تأثيرات محتملة للانسحاب الأمريكي على المعركة ضد الإرهاب، فلم يبرز أي موقف يلحظ مجمل المسألة، أي بشقها الكردي والداعشي وآثار الانسحاب على مجمل المسألة السورية.

ما سبق أدى لتسفيه الجدالات المرافقة للغزو التركي، ورأينا ترامب يطالب المتحمسين لحماية الأكراد بالتقدم لفعل ذلك، بما فيها مطالبته الساخرة للفرنسيين الأعلى صوتاً باستحضاره اسم نابليون بونابرت. رأينا أيضاً سفاهة مماثلة في الحديث عن معاقبة أنقرة بسبب الغزو الذي أتى إثر اتصال وتفاهم بين ترامب وأردوغان، فالأخير اختبر العقوبات الأمريكية في مسألة أصغر شأناً، وهو اليوم مسنود بوقوف المعارضة خلفه دعماً للعملية العسكرية. الأهم من ذلك أن العقوبات الأمريكية في أقصى حالاتها، وحتى إذا أدت لاحقاً إلى تدمير مستقبل أردوغان السياسي، لن تستدرك الأذى الذي وقع بالأكراد "دائماً وفق الجدل القائم"، لأن الأكراد خسروا وضعيتهم السابقة وأصبحوا تحت رحمة بشار الأسد التي يعلم الجميع ما تعنيه للأكراد ولعموم السوريين.

في الجدال الدائر، يظهر بشار كأنه ملائكة الرحمة للأكراد بالمقارنة مع أردوغان، وهذا القياس يبدو مفهوماً عندما يصدر عن أكراد فقدوا نعمة اختيار طريق ثالث، إلا أنه ليس نزيهاً على الإطلاق عندما يصدر عن قوى غربية كانت قادرة بأقل التكاليف على توفير خيارات أخرى للأكراد، ولعموم السوريين من قبل. بل ثمة إحلال تبرع به أردوغان بنفسه، إذ كان الرأي العام الغربي ينظر إلى بشار كشيطان، بصرف النظر عن عدم وجود تبعات لهذا التوصيف، فأتى أردوغان ليحل مكانه في الأوساط الغربية، ومرة أخرى بصرف النظر عن أنه قد لا يتحمل تبعات ذات تأثير حقيقي.

من جهة بعض العرب المنخرط في الجدال من موقع لوم الغرب على "محاباته" الأكراد، لا يرى هذا البعض النفاق الغربي في ما يتعلق بالمسألة الكردية. ثمة تاريخ قريب يجدر تذكره، عندما وقف الغرب ضد استفتاء إقليم كردستان على الانفصال، بل أيّد معاقبة الإقليم واسترجاع المركز العراقي أماكن سيطرة لم تكن له قبل الاستفتاء. أيضاً في مثالنا الراهن، بينما كان ترامب يعلن بين الحين والآخر نيته مغادرة سوريا وبينما كانت أنقرة تضغط من أجل تنفيذ نوايا ترامب لم تتدخل أوروبا ولم تضغط في الاتجاه المعاكس، وما يهم القيادات الأوروبية الظهور الآن بمظهر المساند للحقوق الكردية، وكما نعلم يمكن للعقوبات الغربية على أنقرة التي تُفرض بجعجعة إعلامية أن تُرفع بهدوء بعد انقضاء الحدث.

ما لا ينبغي أن تصعب رؤيته أن التركيز الغربي على العداء التركي-الكردي يضفي شرعية على بشار، وهناك اعتراف بأحقيته في السيطرة على المناطق التي انسحبت منها القوات الأمريكية، وهو اعتراف بأحقيته في السيطرة على كافة المناطق السورية. ليس ترامب وحده من ينفض يده من الملف السوري، أوروبا تفعل ذلك أيضاً بجعجعة تخدمها إعلامياً بينما تتجاهل المشكلة الأصل وهي وجود بشار الذي أتى بكل المصائب والاحتلالات اللاحقة. 

وفق أفضل تصور كان يطرحه الأوروبيون، سيكون هناك اتفاق على دستور جديد، وستقوم الأمم المتحدة بالإشراف على انتخابات تعددية نزيهة عام 2021، وستتكفل موسكو بإخراج بشار الذي لن يفوز بها. وبالعودة إلى ما قبل الانسحاب الأمريكي بأيام، كانت فرنسا تقدمت باسم الاتحاد الأوروبي إلى إدارة ترامب بلائحة شروط تتعلق بالتسوية في سوريا، تصر من خلالها على انتقال ديموقراطي لقاء مساهمة الاتحاد في إعادة الإعمار وإضفاء شرعية دولية على التسوية. لكن ما حصل عليه بشار من سيطرة وشرعية وفق التطورات الأخيرة يتجاوز التصور السابق، وحتى إذا حدثت الانتخابات الموعودة فالأمر مختلف عندما يكون مسيطراً على كافة الأراضي السورية، وسيكون قد اكتسب أصواتاً إضافية "غير مزورة" من الأكراد الذين باتوا يرون فيه أهون الشرور، لا بالمقارنة مع التهديد التركي فحسب وإنما أيضاً بالمقارنة مع المعارضة التي ساندته.

نكذب على أنفسنا عندما نهوّل من القوة الغربية وقدرتها على فرض ما تشاء في أي وقت، فالغرب الذي حجب وسائل الحماية عن السوريين وهم تحت المقتلة، والغرب الذي لم يدخل سوريا إلا مكرهاً بسبب إعدام داعش رهينة أمريكية، والذي سمح بالتدخل الإيراني ثم الروسي، وصولاً إلى الانسحاب الأمريكي الأخير، هذا الغرب أفقد نفسه أدوات للضغط، ولن يحاول فعل ما كان متاحاً له فعله بسهولة من قبل. بدوره التهويل بالقوة الاقتصادية الغربية في غير محله، فسلاح المساهمة في إعادة الإعمار ينفع مع قوى سياسية عاقلة تفكر في مصالح بلدانها، وقد رأينا في غير مناسبة فشل سلاح العقوبات.

الملف السوري، بدءاً من هذه الهزيمة المجلجلة الإضافية، لن يكون كما كان من قبل. نبع السلام ليس اسماً لعملية عسكرية تركية فقط، هو الاسم الرمزي لانسحاب الغرب الذي حاول توريطه خلال سنوات سوريون وعدة قوى إقليمية. مواجهة هذا الواقع المرّ ممكنة رمزياً بمقاطعة ما يتصل به من مفاوضات ولجان على شاكلة لجنة الدستور، وإذا كان من أمل لاحق فسيقترحه عجز الأسدية عن استعادة زمنها وسوريون يجدون أنفسهم بلا خيار سوى التعلم من فشل السنوات الماضية.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها