الأربعاء 2019/10/16

آخر تحديث: 17:43 (بيروت)

أوهام روسية في الخليج

الأربعاء 2019/10/16
أوهام روسية في الخليج
increase حجم الخط decrease
في زيارته للسعودية ، أهدى الرئيس بوتين إلى الملك سلمان بن عبد العزيز نسراً صياداً من كامشاتكا في أقاصي الشرق الروسي ، يشتهر بالتحليق على علو شاهق . واحتلت الهدية عناوين صحف روسية ، بل انشغل مراسل إحدى كبريات الصحف السياسية "kommersant" في متابعة سلوك الطائر خلال انتظار بدء مراسم استقبال بوتين في القصر الملكي السعودي . وفي تحقيقه عن الحدث بعنوان "النسر السياسي" ، قال المراسل أنه ، على الرغم من الصرامة الظاهرية لما كان يحدث في هذا اليوم في بلد الملكية المطلقة ، إلا أن القصر كانت تخيم عليه بلبلة مدهشة . فقد اختلط الأمراء بالوزراء والحرس والصحافيين ، يتحركون مع بعضهم البعض، ويضايقون بعضهم بعضاً ، وبدا كأن لا أحد يعرف الغاية النهائية للجمع . كانوا يدخنون كثيراً في الممرات ، ولم يكن من الواضح تماماً ، ما إن كان هذا كله سيتمخض عنه أمر ما محدد . إلا أن المراسل لم يفقد الأمل ، على قوله ، بأن الجميع ولا بد يتذكرون ، بان زيارة الرئيس الروسي إلى المملكة العربية السعودية تتمتع ب"أهمية تاريخية إستثنائية" . 

ويقول المراسل ، أن سيناريو الزيارة تم تنفيذه بشكل عاصف ، إذ لم تدم المفاوضات الثنائية مع الملك أكثر من 15 دقيقة ، ولم يستمر الإستقبال باسمه أكثر من نصف ساعة ، والوثائق العديدة لم يدم توقيعها أكثر من 15 دقيقة أيضاً . وفي هذه الأثناء ، كان قد بدأ في قاعة مجاورة اجتماع صندوقي الإستثمار السعودي والروسي ، الذي انتهى بدوره ما أن بدأ ، وانتهى سريعاً كذلك اللقاء بين الرئيس بوتين وولي العهد الأمير محمد بن سلمان . وحل بعد ذلك موعد تقديم الهدايا ، وبدا أن الملك قد أُعجب بالنسر الصياد وتلمس صدره ، ووعد بمنحه إسماً خاصاً ، لكن الطير لم يراع دقة اللحظة ، وقام بفعلته على مرمر القصر الملكي .

لم تكتف الصحيفة المذكورة ، بالطبع، بتحقيق مراسلها هذا عن زيارة بوتين إلى السعودية ، بل أرفقته في اليوم نفسه بمقالتين تحدثتا عن الموضوعات ، التي تم التوافق عليها خلال الزيارة ، وعن تاريخ العلاقات بين موسكو والرياض ، وما تخللها من مراحل صعود وهبوط . 

بدورها صحيفة "NG" ، التي تدعي الإستقلالية ، استوحت عنوان مقالتها عن زيارة بوتين إلى السعودية من النسر الهدية "بوتين حمل معه إلى الرياض طائر تحليق شاهق" ، قالت فيها أن الزعماء الروس والسعوديين اتفقوا على ألا يخلطوا السياسة بالإقتصاد . وتقول الصحيفة أن الزعيم الروسي على تواصل مستمر مع قيادات المملكة السعودية ، وتتذكر زيارات ولي العهد السعودي المتكررة إلى موسكو منذ العام 2015 ، وتتوقف عند زيارة والده الملك سلمان بن عبد العزيز العام 2017 . وتشير في هذا السياق إلى أن بوتين لم يزر المملكة سوى مرة واحدة في العام 2007 ، وجميع الأحداث الأساسية ، التي طرأت على السياسة الدولية خلال الفترة الفاصلة بين زيارتيه الأولى والحالية ، شغل الطرفان حيالها مواقف متناقضة كلياً. ففي حين تتمسك روسيا بعلاقات صداقة مع السلطات الرسمية لكل من سوريا وإيران،  تجد السعودية نفسها في حالة صراع مستحكم معهما . 

وتنقل الصحيفة عن المستعرب الروسي المخضرم غريغوري كوساتش قوله ، بأنه لا ينبغي بناء أية أوهام حول الزيارة الراهنة للرئيس الروسي وتمكنها من حل التناقضات بين الطرفين بشأن قضايا الشرق الأوسط. ويقول أن المملكة السعودية سبق وأكدت بوضح لروسيا خلال زيارة الملك سلمان العام 2017 ، أن المملكة عازمة على تطوير العلاقات الإقتصادية فقط مع موسكو ، وعلى تحييد التناقضات السياسية بين الطرفين . ويشير الخبير إلى أن الرياض بقيت حتى الآن وفية لهذا الخط بعدم الخلط بين السياسة والإقتصاد ، وهو ما يؤكد عليه النمو السريع للتبادل التجاري بين البلدين ، حيث ارتفع حجمه من حوالي 500 مليون دولار العام 2016 إلى مليار دولار العام 2018 . 

لكن نشرة منتدى فالداي الدولي للحوار تنقل عن كبير الإستشاريين في "Future Group Holdings" ماركو كارنيلوس رأياً مناقضاً تماماً لرأي المستعرب كوساتش ، إذ يحذر في مقالة له عن زيارة بوتين قبل أيام من موعدها من اعتبار الزيارة كمهمة تجارية فقط . ويقول بأن الزيارة هي الخطوة الأخيرة في السياسة الحذرة ، التي تنتهجها روسيا حيال أعضاء مجلس التعاون الخليجي ، من أجل أن تقدم نفسها كشريك براغماتي موثوق وبديل محتمل . ويرى أن بوتين قد يتقدم خلال زيارته بآلية ملموسة لبلورة مقولة أمن الخليج ، التي طرحتها روسيا في تموز/يوليو الماضي. وتفترض هذه المقولة ، برأيه ، إعادة النظر ببعض المسلمات السياسية للولايات المتحدة الأميركية مثل القيادة الآحادية للنضال ضد الإرهاب، خرق معايير القانون الدولي ، الإستخدام المفرط للقوة ، إزدواجية المعايير والتأييد الأعمى لإسرائيل . 

لم تتردد صحيفة الكرملين "vz" في الموافقة الكلية على رأي هذا الخبير، إذ كتبت في يوم الزيارة بالذات مقالة بعنوان "بوتين يصحح أخطاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" . واعتبرت  أنه لم تنشأ أبداً من قبل بين روسيا والسعودية علاقات على هذا القدر من القرب والصراحة ، تسمح بإمكانية التقدم بمشاريع جيوسياسية مشتركة على الصعيد الثنائي، أو على صعيد المنطقة. ولم يكن مجرد صدفة ما قاله بوتين للملك سلمان نهار الإثنين ، بأنه ينظر إلى التنسيق الروسي السعودي على أنه عنصر ضروري لضمان الأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا .

وقالت الصحيفة بأن بوتين لا يعتبر دور الوسيط هو الدور الأفضل ، الذي يمكن أن تلعبه روسيا بين السعودية وإيران ، "اللتين لا تحتاجان إلى وسيط" . وذكّر بوتين ، على قولها، بالمبادرة التي تقدمت بها روسيا منذ مدة قريبة بشان مقولة ضمان الأمن الجماعي للخليج . وتتلخص المبادرة الروسية بإنشاء منظمة من بلدان المنطقة (أي من السعودية وإيران بالدرجة الأولى) ينضم إليها اللاعبون الدوليون الرئيسيون (الولايات المتحدة ، الإتحاد الأوروبي ، روسيا ، الصين) وذلك من أجل مناقشة حالات الأزمات والمسائل الساخنة ، أي الوساطة ، في حقيقة الأمر ، لكن على مستوى مختلف كلياً ، على قول الصحيفة . 

بكلام آخر ، المطلوب ، برأي الصحيفة ، هو إيجاد مساحة يستطيع التحدث واللقاء فيها ممثلو وزعماء إيرن والسعودية ، الفرس والعرب ، الشيعة والسنة  ، وذلك بحضور ومشاركة الأميركيين والروس والصينيين والأوروبيين . ومن شأن هذا ، برأي الصحيفة ، ليس فقط تبريد الرؤوس الحامية ، بل القضاء على إمكانية التلاعب بالمتخاصمين وتأليبهم على بعضهم البعض ، كما يلاحظ الآن في سلوك الأميركيين حيال الصراع الإيراني السعودي . 

وتنقل الصحيفة عن بوتين قوله ، بأن المبادرة الروسية لم تلق حتى الآن  آذاناً صاغية من جميع الأطراف ، إذ ثمة من يؤيدها ، وثمة من يعتبر بأنه لم يحن أوانها بعد . إلا أن الصحيفة ترى أن مجرد أن تكون روسيا هي، التي تتقدم بمثل هذه الفكرة ، فهذا يعني الكثير ، يعني أنه في حين تحاول الولايات المتحدة تخفيض وجودها في المنطقة ، بعد أن شتتت بلدانها بوضع بعضها بمواجهة البعض الآخر (الناتو العربي) ، تراهن موسكو على بناء الجسور، والبحث عن حلول متوسطة واحترام المصالح المشتركة .  

إلا أن المستعرب الروسي غريغوري كوساتش المذكور يقول لإذاعة "الحرة" الناطقة بالروسية في تعليق له على الزيارة ، بأن الفكرة الروسية المقترحة حول منظومة الأمن الجماعي في الخليج ، التي تحل مكان الولايات المتحدة والغرب في ضمان أمن المنطقة، هي مجرد أوهام روسية يرفض السعوديون والخليجيون البحث بها . 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها