كانت الحدائق الإنجليزية الأولى، منتجاً لحنين ارستقراطي للبراءة، في مدن المصانع الصاعدة. لكن الهوس الإنجليزي الكلاسيكي بكل ما هو ريفي، لم يكن كافياً لتمدد الحديقة العامة لتصبح مشروعاً للدولة، ستحمله الإمبراطورية بعد ذلك إلى ما وراء البحار. فسرعان ما تحول الغرض الجمالي إلى نفعي. وانقلبت الرغبة في محاكاة الطبيعة واستحضارها في الحيز المديني، إلى تطويعها وإخضاعها لمنظومة الحضري. فالمدن الصناعية، التي راحت تكتظ بعمّالها، أضيفت إليها حدائقها كمتنفس مفتوح للترويح عن طبقتها الكادحة، كصمام أمان، وساحات لتجديد الطاقة في نهايات الأسبوع.
وكما تبدلت المدن مع الزمن، تغيَّرَ منطق حدائقها. فعهد الحدائق المركزية والكبرى، ولى، في مدن اختفت منها المصانع، وانغلقت فيها جيوب الأحياء الوسطى على نفسها، وتزاحمت الطبقات الدنيا في داخلها، أو نفيت إلى أطرافها. فمع تطييف العام وتقسيمه، وصعود منطق التخطيط والإدارة اللامركزية والمحلية، ظهرت حدائق الأحياء، الأصغر حجماً، والأكثر تخصصاً، لتقوم بوظائف بعينها، تخدم حاجات محيطها السكاني. تتعايش اليوم أنواع عديدة من الحدائق العامة، تختلف أحجامها وأغراضها وعلاقاتها مع محيطها، بل وتتناقض أيضاً. لكن ما يبقى مشتركاً بينها جميعاً، أن أثراً إيديولوجياً، ولو بعيداً، يظل مطبوعاً في منطق تخطيطها.
صباح أمس الإثنين، افتتح رئيس الوزراء المصري، "مشروع النهر الأخضر"، في العاصمة الإداراية الجديدة، ليضيف بنداً آخر إلى لائحة "الأكبر في العالم" التي تزخر بها الدعاية الرسمية للمدينة. فالمشروع، بحسب بيانات الحكومة، هو "أطول سلسلة حدائق في العالم"، "وأكبر حديقة في العالم"، بطول أكثر من 10 كيلومترات، ومساحة ألف فدان. ولا يكتفي القائمون على المشروع بالإشارة إلى إن ميزانيته هي الأكبر في تاريخ مشاريع الحدائق العامة في مصر، بل يضيفون إلى ذلك غرضه الفريد. فالنهر الأخضر هو "محاكاة لنهر النيل" الذي "يمر في وسط القاهرة، فيجمع شمل أطراف المدينة".
يحكم المشروع، ومخطط المدينة إجمالاً، تصور مركزي. فالحديقة الكبرى تقع وسط المدينة، وتقوم بدور السلسلة الفقرية لأحيائها. يتصور المصمم تلك المركزية في العاصمة القديمة، بوصفها معطى عضوياً أفرزته الطبيعة، كما يشق النيل وسط القاهرة، أو بشكل أدق كما نمت القاهرة على ضفتيه. لكن النيل ليس "أطول نهر في العالم" فحسب، بل هو رمز للخضوع لآليات السيطرة والحكم المركزي، وكذا لقدرية الطبيعة. فعلى سبيل المثال، روّج جمال حمدان، في كتاباته ذائعة الصيت - متواضعة القيمة، الدور الجوهري الذي أدّته جغرافيا وادي النيل الضيق وتمركز الكثافة السكانية داخله، في خلق سلطة مركزية قوية ومجتمع سهل الإخضاع. هكذا، يبدو الخضوع، بالنسبة إلى حمدان، معطىً جغرافياً لا فكاك منه. لكن مصممي النهر الأخضر، الأكثر نباهة، ذهبوا أبعد: فالطبيعة يمكن استنساخها، أيضاً، ومحاكاة أثرها بشكل أكثر كفاءة.
يبدو النهر الأخضر معنياً بتأكيد العلاقة بين العاصمة الجديدة والقاهرة، واختلافهما في الوقت ذاته. فالاثنتان تتشابهان في مركزية النهر. لكن، وإن كانت إحداهما هبة الطبيعة أو صنيعتها، فالثانية -كنهرها- هي إبنه التخطيط المسبق وفرض نظام بعينه من أعلى. لكن مركزية النهر الأخضر لا تتوقف عند موقعه الجغرافي، فالحديقة الضخمة التي ستكون نقطة إلتقاء "شبكة محاور خضراء" تصب فيها أحياء المدينة كافة، ستكون "مساحة متفردة لاستيعاب الأنشطة والاستعمالات الترفيهية" والفنية والثقافية أيضاً، وتعكس "ارتباطها الوثيق بمنطقة الأعمال المركزية".
هكذا، كما ستكون العاصمة الجديدة بؤرة عمرانية للإدارة ومركزة الحكم، فوسطها سيكون محاكاة لمركزيتها، بنهرها الأخضر الذي سيكون ساحة كل نشاط عام ممكن فيها، من العمل إلى الترفيه والثقافة، أو حتى مجرد النزهة. وفي النهاية، لا يغيب عن مصممي المشروع أن يضيفوا إلى المسارح والمطاعم والبحيرات التي يتضمنها المشروع، لمسة هوياتية لا تقل ركاكة عن خطاب النظام. فالنهر الأخضر، كما يضم "حديقة تراثية" تربط المدينة التي بلا تاريخ ببعض "الأصالة"، فإنه يحتوى أيضاً على حديقة إسلامية. تتركنا بيانات الحكومة بلا تحديد واضح للإسلامي، في بستنة ذلك الجزء من النهر الأخضر على وجه التحديد. لكن المُطَمئن في كل الأحوال أن عاصمتنا الجديدة لن تُحرم من حديقة، تؤكد على هويتها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها