الثلاثاء 2018/09/04

آخر تحديث: 07:36 (بيروت)

فلسطين كقضية أفراد

الثلاثاء 2018/09/04
فلسطين كقضية أفراد
"شراء المنتجات الإسرائيلية.. تمويل للأبارتهايد" (كاريكاتير لطوف)
increase حجم الخط decrease
"التحقق من عدم مقاطعة إسرائيل: بتوقيع نص العقد أدناه، يؤكد مقدم الطلب على أنه: (1) لا يقاطع إسرائيل؛ و(2) لن يقاطع إسرائيل خلال مدة هذه الاتفاق".

بعدما ضرب إعصار هارفي، الولايات المتحدة الأميركية، في آب/أغسطس من العام الماضي، مخلفاً 106 قتلى، وخسائر بقيمة 125 مليار دولار، أتاحت الحكومة الفيدرالية دعماً مالياً لمساعدة المنكوبين. وفي تشرين الأول/أكتوبر، من العام نفسه، وفي واحدة من بلدات ولاية تكساس، الأكثر تضرراً من الإعصار، وجد المتقدمون لطلبات الدعم الحكومي، أنفسهم مجبرين على توقيع بند يؤكدون فيه عدم مقاطعتهم لإسرائيل، ويتعهدون بعدم مقاطعتها أثناء فترة استفادتهم من الدعم. أثار البند الاستثنائي، الذي ضمنته بلدة ديكنسون، في استماراتها، بعض الضجيج الإعلامي. لكن إدارة البلدة أعلنت أن متطلباتها تلتزم بالقانون الذي مررته ولاية تكساس في العام السابق، والذي يمنع إدارتها من الدخول في تعاقدات مع أي جهة تقاطع إسرائيل، أو تحرض على مقاطعتها. ولم تكن تكساس وحدها، فإجمالي 24 ولاية أميركية مررت قوانين مشابهة خلال الأعوام القليلة الماضية.

خلال الفترة نفسها، وفي ولاية كنساس، وجدت مدرسة الرياضيات، إيستر كونتز، نفسها مجبرة على التوقيع على تعهد بعدم مقاطعة إسرائيل، من أجل تجديد عقد عملها مع إحدى الإدارات التعليمية في الولاية. رفضت كونتز التوقيع، فطائفة "المانونيت" البروتستانتية التي تنتمي إليها، كانت قد قررت بغالبية الأصوات، مقاطعة إسرائيل، في مؤتمرها العام قبل شهرين. وكانت النتيجة أنها فقدت وظيفتها.

ولا يبدو هوس مناهضة حركة المقاطعة ضد إسرائيل، مقتصراً على الولايات المتحدة. فالحكومة البريطانية كانت قد مررت، قبل عامين، لائحة تمنع المجالس المحلية من مقاطعة إسرائيل، وقامت بمقاضاة عدد من المجالس المحلية التي خالفت قرارها، وكان من ضمنها مجلس مدينة ليستر الإنجليزية. وفي إسبانيا، خلال العامين الماضيين، قاضت الحكومة الإسبانية، عدداً من مجالس المدن، للسبب نفسه، وحصلت على حكم قضائي في حزيران/يونيو2017، لصالحها، يمنع أي إدارة محلية من مقاطعة إسرائيل. أما في باريس، فإن الحكومة الفرنسية، كانت الأكثر تشدداً. فهي لم تكتفِ بمنع الهيئات المحلية من المشاركة في المقاطعة، بل مررت قانوناً يجرمها، في العام 2015. وكان هذا القانون حينها أكثر تشدداً من القوانين الإسرائيلية نفسها. ووصل الأمر إلى أنه في شباط/فبراير2018، طالبت الحكومة الفرنسية منظمة "الاتحاد الفرنسي اليهودي للسلام" ردّ الدعم الحكومي الذي تلقاه، بسبب استخدام الاتحاد لمبلغ منه في الدعاية لحملة المقاطعة.

لكن ما يبدو انتصاراً للوبي الإسرائيلي حول العالم، ليس في الحقيقة سوى العكس تماماً. فبالرغم من اصطفاف الحكومات المركزية إلى جانب إسرائيل، فإن قضية المقاطعة لم تعد مسألة تتعلق بالسياسات الخارجية. بل أصبح الأمر يتعلق بأدق تفاصيل علاقة المواطنين الأفراد، والمؤسسات المحلية المنتخبة، بالدولة، بدءاً من مِنَح الكوارث وتعاقدات التوظيف، وصولاً إلى أحقية مجالس المدن والمقاطعات في تمرير القرارات.

دفع الضغط الإعلامي، مدينة ديكنسون، إلى شطب البند المتعلق بإسرائيل في خلال أيام. فالقضية كانت قد أصبحت تتعلق بحرية الضمير، والاعتقاد. وفي كانون الثاني/يناير2018، حكمت محكمة أميركية لصالح المدرّسة إيستر كوينز، وعلَّقت سريان قانون ولاية كنساس المتعلق بمقاطعة إسرائيل، لشبهة عدم الدستورية. وفي بريطانيا، شهد الأسبوع الأول من حزيران/يونيو، قرارين منفصلين لمحكمتين، أحدهما أقرّ حق الحكومة البريطانية في فرض قرارتها على المجالس المحلية في ما يخص قضية المقاطعة. وجاء القرار الثاني، على العكس، داعماً لحق مجلس مدينة ليستر في مقاطعة إسرائيل. في إسبانيا، وخلال الشهرين الماضيين، تبنى مجلسان محليان لمدينتين، قرار المقاطعة، في تحدٍّ للحكومة المركزية. وجاء قرار مدينة فالنسيا الإسبانية، بمقاطعة إسرائيل، ليجعلها أكبر مدينة في أوروبا تتخذ مثل هذا القرار. وفيما يبدو أن الموقف الفرنسي ما زال معادياً بشراسة للحملة، فقد شهد العام الجاري تصويتاً تاريخياً للبرلمان الإيرلندي، إذ مرّر قانوناً لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة.

تتقدم حركة "بي دي إس" ببطء، وتتلقى ضربات تدفعها إلى الوراء خطوتين، قبل أن تعوض ما فقدته، بخطوة واحدة للأمام. لكن ما نجحت فيه الحركة، بمساهمة من الحماس المبالغ فيه من اللوبي الإسرائيلي، هو أن جعلت من قضية فسلطين شأناً يتعلق بضمير الفرد، لا سؤالاً يتعلق بالحكومات المركزية والمنخرطين في السياسة والعاملين فيها. ففيما الحكومات، بما فيها الحكومة الفلسطينية نفسها، تعزز علاقاتها مع إسرائيل يوماً بعد آخر، فإن حركة المقاطعة تحقق مكاسب على مستوى قاعدي، وتجتذب دعماً لقضيتها، لا بوصفها قضية تتعلق بالعدالة وحق الشعوب في تقرير المصير فحسب، بل وتتعلق بحق الفرد في مواجهة الدولة، والمحلي في مواجهة المركزي، والشعبي في تحديه للرسمي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها