الأربعاء 2018/09/26

آخر تحديث: 00:05 (بيروت)

صبرا وشاتيلا:الرعب مستمر

الأربعاء 2018/09/26
صبرا وشاتيلا:الرعب مستمر
(Getty)
increase حجم الخط decrease
قال الروائي الأميركي وليام فولكنر مرةً إن "الماضي لم يمت - بل حتى لم يمضِ". ومع مرور عام آخر على مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول/سبتمبر 1982، فإن الماضي يتحدث إلينا بطرق جديدة يخبرنا فيها بعض الأشياء التي كنا دائما نشتبه في أنها قد تكون حقيقية. كل مجزرة هي مروعة بالقدر نفسه، لكن كل مجزرة هي أيضاً فريدة بشكل خاص في توقيتها ومكانها ومرتكبيها وضحاياها والناجين منها. إن مقارنة المجازر يمكن أن تتحول بسرعة إلى لعبة أرقام قبيحة حيث تُناقش أعداد القتلى النهائية وتقلل من معاناة الناجين أو حتى تنكرهم. 
شهد لبنان العديد من المذابح خلال الحرب الأهلية. أسماء الكرنتينا والدامور وتل الزعتر تستحضر ذكريات مؤلمة من المذبحة والرعب، إلا أن هذه المذابح لم تُلقَ الظلال عليها لوقت طويل عبر السنين مثل مذبحة صبرا وشاتيلا. على الرغم من أن أعداد القتلى النهائية في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا كانت عالية بشكل مماثل، إلا أن مجزرة عام 1982 سجلت في الذاكرة التاريخية خارج لبنان كعمل وحشي، مماثل لسربرينيتشا، غرنيكا، ووندد كن، ودير ياسين.
كانت مجزرة صبرا وشاتيلا بمثابة نقطة التقاء بشعة ومميتة للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والحرب الأهلية اللبنانية. وقعت عمليات القتل في المدينة التي دمرتها الحرب والحصار، ثم احتلها الجيش الإسرائيلي تحت قيادة آرييل شارون. كان اللاجئون في صبرا وشاتيلا ضعفاء بشكل خاص. قيادتهم، منظمة التحرير الفلسطينية، مع ياسر عرفات، إنقلبت رأساً على عقب، ومعظم حماتهم المسلحين قد غادروا قبل شهر، بعد الحصول على ضمانات رسمية ومكتوبة بأن النساء والأطفال والمسنين الذين تُركوا وراءهم سيكونون محميين. جاءت هذه الضمانات الرسمية من حكومة الولايات المتحدة ودعمتها من خلال مسؤوليها ودبلوماسييها، وعلى الأخص الأميركي اللبناني فيليب حبيب. كان القتلة من أعضاء المليشيات اليمينية المسيحية اللبنانية، تحت القيادة المباشرة للجيش الإسرائيلي. كانت شرارة إطلاق المجزرة هي اغتيال بشير الجميل، حليف إسرائيل الرئيسي في لبنان، يوم 14 أيلول/سبتمبر.
في تلك الأيام التي سبقت الهواتف الخليوية، وسائل التواصل الاجتماعي، إنستغرام ويوتيوب، كانت روايات المجزرة التي ظهرت تتفجّر إلى حد كبير من الناحية اللفظية وتكشف الحقيقة. لم يكن لدى أحد صور أو لقطات مصورة عن عمليات القتل الفعلية في المخيمات للإثبات بشكل قاطع أن الإسرائيليين نسقوا المذبحة وساعدوا في تنفيذها. مباشرة بعد أن أصبحت المذبحة معروفة للعالم، ولسنوات عديدة بعد ذلك، نفت إسرائيل تورطها المباشر. وقال رئيس الوزراء مناحيم بيغن، الذي كان يرأس الحكومة الإسرائيلية طوال فترة الغزو عام 1982 وإبان المجزرة، "إن الأغيار يقتلون الأغيار، والعالم يلوم اليهود!"، ويتنكر باستهتار للأسئلة حول ذنب إسرائيل. لكن أي شخص كان في المخيمات أو بالقرب منها خلال تلك الأيام الثلاثة التي تقشعر لها الأبدان، كان يعلم بشكل لا لبس فيه أن إسرائيل كانت متورطة إلى حد كبير في المذبحة.
الممرضة اليهودية الأمريكية من بالتيمور، ولاية ماريلاند، إلين سيغل، عملت كمتطوعة في مستشفى غزة في المخيم، وأدلت بشهادتها بعد أشهر أمام لجنة "كاهانا" في إسرائيل، وهي هيئة تحقيق لا تملك قوة قضائية. وأفادت سيغل بأن رجال الميليشيات المسيحية قادوها مع أطباء وممرضين أجانب آخرين إلى خارج المستشفى، وقاموا بصفهم مقابل جدار تمهيداً لإعدامهم، ثم توقفوا فجأة عن خططهم عند سماعهم شخصاً من خارج المخيمات عبر جهاز اتصال لاسلكي. من يستطيع أن يرى - ويوقف - ما كان يحدث. أعطى أحدهم القتلة أمراً بعدم قتل الأجانب. كان شخص ما يدير عمليات القتل. هذا الشخص كان بلا شك إسرائيلياً، يراقب عمليات القتل من موقع قيادة على سطح مبنى السفارة الكويتية المجاورة.
في فيلم الرسوم المتحركة الإسرائيلي "الفالس مع بشير"، الحائز على جوائز عام 2009، تقودنا الشخصية الرئيسية، وهو رجل إسرائيلي في منتصف العمر تضايقه كوابيس من أيام خدمته في الجيش الإسرائيلي في لبنان، في رحلة محادثات مع أصدقائه ورفاقه، يحاول تذكر ما حدث بالضبط في صبرا وشاتيلا، ويتساءل عما إذا كان مسؤولاً.
وبحلول نهاية الفيلم، نراه ورفاقه يسبحون ليلاً في البحر، بينما تطلق مشاعل الإضاءة وتملأ السماء بضوء أصفر قاتل. ويرى الجمهور أن القنابل التي أطلقها الجيش الإسرائيلي كانت تهدف إلى تسهيل المهام القاتلة للمقاتلين. نحصل على الرسالة: إسرائيل متورطة، وربما بعد مرور 30 عاماً فقط ، يتوصل بعض الجنود إلى الاعتراف بذنبهم ويشككون في الرواية الرسمية. بالنسبة للجمهور العربي، يبدو ذنب إسرائيل واضحاً نوعا ما ، لكن بالنسبة للجمهور الإسرائيلية، كان لا يزال من المثير للجدل مناقشة دور إسرائيل في المجزرة بطريقة علنية كهذه.
في عام 2001، تحول بعض الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا من حالات مثيرة للشفقة والرعب إلى مواضيع قانونية نشطة في قضية جنائية دولية عُرضت على المحاكم في بروكسل بموجب مبدأ الاختصاص العالمي للجرائم الإنسانية الدولية. ووجدت شهادات شهود العيان وقصصهم المؤلمة عن الكيفية التي أثرت بها المجزرة على حياتهم كلها، مطبوعة في قضية قانونية بارزة.
على الرغم من أن المحاكمة لم تتم أبداً، وذلك بفضل تدخل وزير الدفاع في إدارة جورج دبليو بوش، دونالد رامسفيلد، فإن قتلة وممارسي هذه المجزرة قد عانوا بالتأكيد من مخاوف بشأن الملاحقة القضائية لأول مرة في حياتهم. وقد قُتل أحد المتهمين، وهو إيلي حبيقة، في انفجار سيارة ملغومة بعد أن أشار إلى أنه على استعداد للسفر إلى بروكسل للإدلاء بشهادته حول دوره في المجزرة، والتي كانت ستوفر معلومات حول دور إسرائيل ومسؤولية القيادة عن كل ما حدث في تلك الأيام الثلاثة.
(يمكن للقراء العثور على أرشيف كامل لحالة المحكمة البلجيكية للفترة 2001-2003 على هذا الرابط: http://indictsharon.nigelparry.net).
خلال السنوات القليلة الماضية، تعلمنا المزيد ليس فقط عن المسؤولية الإسرائيلية عن المجزرة، بل عن التواطؤ والاشتراك الأميركي أيضاً. بالطبع، بالنسبة لكل من عاش الحرب والمذبحة، هذه ليست مفاجأة. لكن بالنسبة للأميركيين، لا تعتبر شهادات الفلسطينيين جديرة بالثقة مثل كلام الإسرائيليين. وهو أمر مثير للسخرية، لأن السجلات المكتوبة للاجتماعات بين أرييل شارون والدبلوماسيين الأميركيين التي وقعت أثناء المجزرة تظهر بوضوح أن شارون كذب مراراً وتكراراً على المسؤولين الأميركيين. صدرت هذه الوثائق كجزء من الملحق السري لتقرير لجنة "كاهانا" في عام 2013، وهي متوفرة في الأرشيف الإسرائيلي، وكذلك على الإنترنت على الرابط: https://www.scribd.com/document/388796835/Kahan-Commission-Appendix-English#from_embed
بعد مرور 36 عاماً على مذبحة تعيش في كوابيس العالم، وفي وقت تكون فيه المسافة ضئيلة أو معدومة بين آراء وسياسات وتكتيكات الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، فإن أوجه القصور والضعف في حكومة الولايات المتحدة في السيطرة على ضراوة أرييل شارون في عام 1982 "مقلقة" بشكل خاص. في عام 1982، كان بعض المسؤولين الأميركيين مستعدين وراغبين في تسمية الإسرائيليين بما كانوا عليه، وحوش. الآن، لا يمكن التمييز بين لغة دونالد ترامب، وما يسمى بفريق السلام في الشرق الأوسط، وبين لغة بنيامين نتنياهو. 
بينما نراقب الولايات المتحدة تنفذ رغبات إسرائيلية طويلة الأمد لمحو اللاجئين الفلسطينيين كفاعلين قانونيين وسياسيين، إن لم يكن كأحياء، وتنفث الشر عن طريق خفض المساعدات المقدمة إلى "الأونروا" واستهداف حق الفلسطينيين في العودة إلى الأمم المتحدة، نحن نرى أن الماضي لم يمت، هو أصلاً ليس ماضياً بالنسبة للاجئين الذين أصبحوا الآن في وضع ضعيف كما كانوا منذ فترة طويلة في أيلول/سبتمبر في صبرا وشاتيلا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها