الثلاثاء 2018/09/18

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

سوسيولوجيا الفضيحة

الثلاثاء 2018/09/18
سوسيولوجيا الفضيحة
الاستهلاك الشره للأذى (DW)
increase حجم الخط decrease
في كتابه "الفضيحة والإصلاح"، الصادر في العام 1978، يتبنى عالم الجريمة الأميركي لورانس شيرمان، مفهوماً طقسياً لفهم الفضيحة، يلخصه بعبارة: "الفضائح هي مراسم احتفالية لنزع المكانة"، والتي ستصبح واحدة من العبارات الكلاسيكيات، وسيتم اقتباسها، لاحقاً، مرات ومرات.

تقف الفرضية الطقسية للفضيحة على الحدود المشتركة للأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، فلكل طقس وظيفة اجتماعية، كما يذهب أصحاب المدرسة الوظيفية، والفضائح تنتمي لتلك اللحظات الاستثنائية التي يطلق عليها في علم الاجتماع الكلاسيكي، "لحظات الفورة"، بحسب دوركايم. وبالرغم من الإمكانات الكامنة في محاولة فهم الفضيحة، وتشريحها، فإن الاهتمام بها ظل محصوراً معظم الأوقات في نطاق العلوم السياسية، ومع الوقت وجدت الفضيحة، مكاناً محدوداً لها في دراسات الإعلام. إلا أن حصر النظر في ظاهرة "كشف التناقضات للعلن"، بوصفها حدثاً سياسياً، أو صنيعة الإعلام، يبخس الفضيحة حقها.

قبل شهور، وفي خضم الانتخابات الرئاسية المصرية، طالت المرشح الرئاسي خالد علي، اتهامات بالتحرش الجنسي، وتعرض حزبه "العيش والحرية" لانتقادات واسعة، اتهمته بسوء إدارة التحقيق في المسألة. لم يثبت على علي شيئ من الاتهامات، لكن مستقبله السياسي كان قد انتهى بالفعل، حتى قبل الإعلان عن استقالته. وأما حزبه، ومعظم التجمعات العلمانية سواء كانت الحقوقية أو السياسية فقد واجهت هزة ليست بالهينة، وأزمة ثقة لم تتعافَ منها بالكامل إلى اليوم. في الأسبوعين الماضيين، تعرض الإعلامي الموالي للنظام دندراوي الهواري، لاتهامات بالتحرش من إحدى زميلاته. وواجه الإعلامي المعارض يسرى فودة، اتهامات مشابهة، وتم ربطها بوقف عمله في "دويتشه فيله". وفي كل تلك الحالات، توفرت الجوانب الاحتفالية والطقسية للفضيحة.

لكي تصبح الفضيحة فضيحة، فيجب أن تتضمن كشفاً، أن تُخرِجَ للعلن ما يجب النظر له بوصفه تناقضاً. لكن الخروج للعلن، ليس كافياً، فأحيانا كثيرة ما يتم التواطؤ على التجاوزات المكشوفة. ولذا، يجب أن يكون للفضيحة جمهور، ككل طقس احتفائي. تضع الفضيحة جمهورها، على محك الاختبار، فالتجاوزات التي يتم كشفها، تطرح الأعراف المتفق عليها في محل المساءلة، فأما أن يتم تأكيدها وترسيخها أو يتم نبذها بلا رجعها. وفي لحظات استثنائية، تضحى الفضيحة مفصل تحول، تعيد تعريف القواعد، وتسقط البعض من مكانتها، معيدة تشكيل علاقات القوة، وتغير طرق توزيع أنصبتها، ومن ثم تنتج ممارسات وقيماً جديدة أيضا.

تكمن قوة المراسم الفضائحية، وفاعليتها في عنفها المعنوي، فالخوف من المهانة والتشهير، هو إحدى وسائل الضبط الاجتماعي، التي تردع الجمهور عن تجاوز الأعراف القائمة. لكن العنف المعنوي الذي ينهال على المستحقين للعار الاجتماعي، ليس بالضرورة هدفه العقاب فقط والردع، فأحياناً ما يكون تكفيراً عن الجماعة، وشعورها بالذنب.

لكن تلك التصورات السابقة عن الفضيحة، تبدو مثالية إلى حد كبير. فليس كل جمهور الفضيحة موحداً في لوم الجاني أو الدفاع عنه، وهناك أحيان كثيرة مُدّعي ومدعىً عليه، وتختلف أنصبة كلاهما من القوة ووسائلها، وقدرتهما على الولوج إلى الرأي العام وتوجيهه. الفضيحة هي نوع من المنافسة، وصدام محتمل ومساحة للجدل والمراجعة، والأهم وسيلة لترسيخ الانتماء لجماعة ما، ولقيمها. حين خرجت الاتهامات ضد خالد علي، إلى العلن، كان الدفاع عنه، أو الهجوم عليه، أو النقد الذاتي لمنتسبي لحزبه، أكثر من مجرد رد فعل تجاه واقعة فردية، بل محاسبة لتيار بمجمله، وتخندقاً ضد قيم معينة، واختباراً لعلاقات من الولاء الشخصي والانتماء الجماعي. وهكذا الأمر في قضيتي الهواري وفودة، فالموقف منهما يعتمد بشكل كبير على الخلفية السياسية لأصحابه، والانتماء لتيار بعينه والإيمان بمجموعة من القيم والأفكار لا تقتصر على علاقات الجنس واللياقة المهنية فقط، بل كل شيء آخر أيضاً من أول الدين إلى الأيديولوجيا السياسية.

في خضم الجدل حول قضية فودة، تم نبذ البعض ممن دافعوا عنه وشهّروا بالمدعيات عليه، قطع البعض علاقات شخصية بآخرين، بسبب موقفهم من الأمر. تمترس الكثيرون وراء نظرية المؤامرة السياسية، لتبرئة فودة، وذهب البعض لتعميم تهمة التجاوز الأخلاقي ضد كل معارضي التيار الإسلامي، وألقى آخرون باللوم على الصواب السياسي.

تأتي الفضيحة، بجملة من الطقوس والاختبارات، بإمكانات متناقضة من البناء والهدم والإحلال، لترسيخ القائم وخلق الجديد، تدعيم الهويات وزعزعتها، وكل هذا عبر قدر متفاوت من العنف والتخريب، والكثير من المخاطر. تحمل طقوس الفضائح، فرصاً كثيرة، طالما ظلت الفضيحة، لحظة من الفوران، أو انفجاراً استثنائياً. لكن حين تضحى تلك اللحظة وضعاً مستمراً، يتم تكثيف انتقاميتها ومطها زمنياً، بفعل حالة الخواء العام، فتتحول الفضائح إلى عملية للاستهلاك الشره للأذى، وتفريغ الطاقات المكبوتة، بحيث يصبح الجميع ضد الجميع، ويعمم العار على الكل، حتى لا يبقى سواه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها