الإثنين 2018/08/06

آخر تحديث: 18:38 (بيروت)

حرب اليمن: مشهد أنتربولوجي

الإثنين 2018/08/06
حرب اليمن: مشهد أنتربولوجي
increase حجم الخط decrease

اليمن اليوم في حالة مراوحة، فلا الحوثيون نجحوا في الإمساك بمقاليد الحكم وبالتالي تمكين حليفتهم إيران من استعمال الورقة اليمنية في حروبها الإقليمية والدولية، ولا التحالف العربي بقيادة السعودية نجح في حسم المعركة لصالحه حيث أظهر تردداً وربما عجزاً في اقتحام ميناء ومدينة الحديدة، وحيث المعارك الدائرة في المحافظات الأخرى في حالة كر وفر أكثر منه في وضعية حسم جدي لأي من الطرفين.

نجحت السعودية في الحد من توسع الحوثيين ومنعتهم من الإمساك بالسلطة الشرعية، وقلبت  الطاولة عليهم بعد أن نجحت في جعل الحوثيين خارجين على القانون الدولي، وفي انتزاع الاعتراف الدولي بشرعية حليفها الحالي عبد ربه منصور رئيساً لليمن. ونجحت في تشكيل أكبر تحالف عربي للمشاركة في معارك اليمن، إضافة إلى تعلمها من تجربة عبد الناصر في الستينات بعدم زج جنودها داخل اليمن والعمل على تعبئة أكثر القبائل اليمنية للقتال ضد الحوثيين وتجهيزهم بما يلزم من عتاد وقدرات.

رغم كل ذلك لم تنجح السعودية في حسم المعركة بالكامل، والأعوام تمر من دون مؤشر واضح على تغير جذري في موازين القوى. فرهان الحوثي هو الصمود أطول فترة ممكنة لاستنزاف عدوه وإرباكه، إذ إن بنية اليمن القبلية وجغرافيتها الوعرة تسهل عليه هذه الغاية، كما أن القدرة الصاروخية التي يصل مداها إلى المدن الحيوية، بشريا وسياسيا واقتصاديا، لكل من السعودية والإمارات، تتسبب للدولتين بإرباك وتعطيل للحياة فيهما وأضرار اقتصادية فادحة لهما.

أما إيران فقد عملت لسنوات طويلة، مباشرة أو عبر وكلائها، عليى تجهيز وتدريب الحوثيين، وتحويلهم من مجرد متمردين يهربون إلى الكهوف ورؤوس الجبال وقت الأزمات، إلى تكوينات منظمة ذات مشروع سياسي طامح، وقدرات قتالية حديثة، وبنية هرمية وتراتبية تؤهلها إدارة مؤسسات الدولة والتحكم بها. وهو أمر سهل عليهم الزحف إلى صنعاء لملء الفراغ السياسي الحاصل إثر تزعزع  حكم علي عبد الله صالح، ووضع اليد على مقدرات الدولة ومؤسساتها.

رغم كل ذلك فقد فشل مشروع الحوثي في تحويل سلطة الأمر الواقع إلى سلطة شرعية معترف بها، وتسبب حصار التحالف العربي لهم، في البحر والجو، في حصول شح في مواردهم، وانهيار لمؤسسات الدولة التي وضعوا أيديهم عليها، وتململ داخل البيئة الاجتماعية والسكانية التي حكموها، ما حوّل الحوثيين مؤخراً إلى أجهزة بوليسية لقمع أي احتجاج أو معارضة داخل مناطق سيطرتهم، وانتقالهم من حال الهجوم إلى حال الدفاع عن المكتسبات.

فشل الحوثيين يعني أيضاً تحول اليمن ورقة خاسرة بيد إيران، وغير ذات جدوى في مشروع انتشارها ومعركة بقاء النظام الإيراني الحالي مع بداية تطبيق العقوبات الأمريكية القاسية عليها.  وسيصبح تقهقر الحوثيين المتراكم وانكفاؤهم عبئاً مالياً وعسكريا على إيران أكثر منه ورقة ضغط تمارسه ضد الولايات المتحدة والسعودية.

بالمقابل نجح التحالف العربي في إفشال مشروع سلطة وحكم موال لإيران في اليمن، وفي تقليص مناطق سيطرة الحوثي وقدراته التخريبية، خاصة القدرة على إغلاق باب المندب. ورغم ذلك لا يبدو أن هذا التحالف قادر على حسم المعركة لصالحه، ويبدو أن توغله في العمق اليمني وسيطرة قواه على قمم التلال والجبال هو أقرب إلى استدراج منه إلى سيطرة، وغرق في المستنقع اليمني أقرب منه إلى  حسم وإنهاء لوجود الحوثيين العسكري والسياسي.

هذا يدل على أن محركات الحرب في اليمن ومحدداتها لا تختصر في تصويرها صراعاً بين محاور دولية ، أو تجاذباً سعودياً إيرانياً، أو حرباً دولية على الإرهاب، بقدر ما تحمل في طبقاتها العميقة صراعاً اجتماعياً عميقاً يتمثل في التجاذب والتحالف والتنافس والاشتباك الحاصل بين القبائل حيث يصل تعداد القبائل الفاعلة فيها إلى ملايين اليمنيين.  وهو شكل صراع لا تنفع معه استراتيجيات القتال الحديثة لحسم نتائجه، ولا يعود للتفاوض الدبلوماسي أو صيغ الحلول السياسية من معنى أو جدوى لحل الصراع وإنهاؤه. بل لا يعود لمعنى الحق والباطل أو الخطأ والصواب من مكان أمام صراع العصبيات اللاعقلانية التي تملأ كيان سلوك الفرد وتفكيره.

نحن أمام مشهد أنتربولوجي، لا بد لفهمه من العودة إلى البنى العميقة غير المعلنة والخافية في تكوين الاجتماع اليمني، لكنها المحرك والمحدد الأساس لأي تحالف أو انقسام أو صراع داخل اليمن.  هي بنى متجذرة، أي بنى لا تاريخية، لم تقدر الدولة اليمنية القائمة أن تغير من مبادئ انتظامها وأطر ولاءاتها بحكم الهوة الواسعة بينهما، ولم تستطع العولمة بصورها الأثيرية العابرة للحدود والمخترقة للخصوصيات أن تنفذ إلى داخلها أو تغير من ثقافة ووعي الفرد في داخلها.   هو مشهد صراع تكون فيه الأيديولوجيات المتداولة أوضح أنواع الوعي الكاذب المفارق للواقع الفعلي، ويكون معه العنصر الخارجي، الإيراني والسعودي معاً، هامشياً وثانوياً في إنهاء هذا الصراع أو استمراره.

لا يكفي في حل الأزمة اليمنية الحسم العسكري أو السياسي، بل لا بد من معالجات اجتماعية ومبادرات مصالحة بين مكونات المجتمع اليمني، إضافة إلى استراتيجية إنماء تطور الواقع الإنتاجي وتسهل تغيير نظام العلاقات وأطر الولاءات لصالح تضامنات اجتماعية معقلنة وولاءات سياسية عمادها الاختيار الفردي الحر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها