السبت 2018/08/25

آخر تحديث: 13:12 (بيروت)

نكتة التحذير الثلاثي

السبت 2018/08/25
نكتة التحذير الثلاثي
increase حجم الخط decrease

قبل خمسة أيام، بالتزامن مع ذكرى الهجوم بغاز السارين على الغوطة، أصدرت واشنطن ولندن وباريس بياناً يحذّر الأسد من استخدام الكيماوي مجدداً. هنا تنتهي النكتة السمجة، النكتة التي يصر أصحابها على إسماعنا إياها كل مرة بالطريقة ذاتها، ومن المحتمل جداً أنها لا تضحك أحداً سوى الأسد نفسه الذي ربما قهقه طويلاً وهو يقرأ الخبر، إذا كانت مهامه تسمح له بمتابعة مثل هذه الأخبار!

لا يخفى أن التحذير الثلاثي أتى مع التجهيز لمعركة إدلب، وهو إذ يرسم خطاً أحمر للممنوع في المعركة فإنه يقرّ بشرعية استخدام كافة أسلحة الدمار الأخرى، ويعلن قبل ذلك موافقة هذه الدول على المعركة. موسكو من جانبها لم تتلكأ عن استكمال النكتة، إذ سرعان ما نقلت وكالة سبوتنيك الروسية عن مصادر "خاصة بها" من إدلب قيام عناصر من "الخوذ البيضاء" بنقل ثماني سيارات فان مغلقة محملة بغاز الكلور، تمهيداً لهجوم كيماوي يشنه عناصر الدفاع المدني بإشراف من جبهة النصرة، ويتم اتهام تنظيم الأسد به! أي أن موسكو أيضاً تكرر لنا النكتة السمجة التي سبق إطلاقها قبل معركة الغوطة، وتكاد لا تترك لنا فرصة التكهن حول استخدام الكيماوي مرة أخرى أو عدمه.

النكتة السمجة التالية، في حال استُخدم الكيماوي، لن يتأخر بها من هنا وهناك أسديون أو بوتينيون، وستأتي بمثابة سؤال استنكاري مفاده: لماذا يستخدم الأسد الكيماوي معرّضاً قواته لرد غربي، بخاصة أن قدرته على القتل والتدمير المرخّص بهما بأسلحة أخرى تفوق ذلك الاستخدام المحدود للسلاح الكيماوي؟! وهذا تساؤل لا يعوزه المنطق الشكلي، إذ بات يستند إلى سابقتين، قامت واشنطن في أولهما بضرب مطار الشعيرات، وفي المرة الثانية قصفت واشنطن ولندن وباريس مجموعة مواقع مخصصة لإنتاج السلاح الكيماوي. وقبل أن نغادر المجال الاستباقي لهذه النكتة لا بأس في استكمال السيناريو بأشد حالاته تطرفاً، إذا أعلنت العواصم الثلاث عن امتلاكها أدلة على استخدام الأسد الكيماوي، وأعلنت تالياً أن الغاية من العقوبة تقتصر على ردعه عن استخدامه مرة أخرى، وأنها كانت في منتهى الحرص عندما اختارت بنك أهدافها بحيث لا تصيب طائراتها أو صواريخها سوى تلك التي تتعلق بإنتاج هذا السلاح، وبالطبع تم إخطار موسكو بالهجمات مسبقاً.

زيادةً في اصطناع الإثارة، وفق سيناريو استخدام الكيماوي، قد يشتم ترامب الأسد على حسابه في تويتر، لكن كما نعلم أصبحت هذه نكتة سمجة أخرى، فترامب لم يتوقف عن شتم آخرين بمن فيهم شخصيات كانت مقرّبة منه. ولا يُستبعد من رئيس مثله أن "يلحس" تحذيره متذرعاً بثمن الصواريخ التي سيطلقها على منشآت الأسد، لولا العامل الشخصي جداً الذي يدفعه في هذه المناسبة إلى إثبات أنه ليس ضعيفاً مثل أوباما الذي مرر اجتياز خطه الأحمر بلا عقوبة.

لا حاجة للتأكيد على أن هذه الاستعراضات السمجة يدفع ثمنها السوريون، إلا أن تكرارها، والإصرار عليها من قبل جميع الأطراف لا يخلو من إشارات يُستحسن التوقف عندها. ولعل أولها إصرار الأسد على استخدام الكيماوي، بعد اختبار إرادة ترامب وتلقي الرد في مناسبتين. شكلياً يبدو قرار استخدام الكيماوي فيه ما فيه من التهور أو الغباء، وفي ميزان الربح والخسارة هو قرار خاسر لأن مردوده العسكري أقل من كلفته. لكن هذا المنطق المبسّط يغفل عمّا يريد الأسد وحلفاؤه تكريسه بعد صفقة الكيماوي مع أوباما، فالأساس هنا إشهار الاحتفاظ بالسلاح الكيماوي وبالقدرة على إنتاجه مجدداً، وأيضاً إشهار الاستهتار بالقانون والاتفاقيات الدولية بعد انضمام تنظيم الأسد إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية. رمزية هذا الأمر فيها من المكسب ما يفوق الخسارة المحدودة التي سيوقعها القصف الغربي ببعض المنشآت، بخاصة مع وجود فرصة للتخفيف من الخسائر بسبب إخطار موسكو مسبقاً بعمليات القصف.

وفق المنطق الشكلي أيضاً يبدو من الغباء أو التهور أن يستثير الأسد غضب الغرب في التوقيت الذي يبدو فيه الأخير راعياً إعادة تدويره، إلا أن ما يريده الأسد تحت الطاولة غير ما يريده فوقها. لقد دأب الأسد منذ اندلاع الثورة على تصويرها مؤامرة غربية-إقليمية على نظامه، رغم معرفته الجيدة بعدم وجود نية أمريكية لإسقاطه. القصف الغربي المحدود بسبب الكيماوي يفيد الأسد داخلياً وضمن جمهور الممانعة في تعزيز روايته تلك عن المؤامرة. فوق ذلك يستفيد الأسد من شيوع الظن بأن الإصرار الغربي في قضية الكيماوي تحديداً مرده العامل الإسرائيلي، فبحسب هذه القناعة التي لا يندر وجودها حتى بين خصومه يصبح استخدام الكيماوي ضد السوريين شأناً ثانوياً بالقياس إلى خطره على إسرائيل، رغم معرفتنا بأن إسرائيل لا تفتقر إلى إمكانيات الردع والمبادرة بحيث تبطل هذا الخطر المزعوم. وأهم ما يكسبه الأسد من هذه الرواية التغطية على أن بقاءه شخصياً مصدر ترحيب إسرائيلي، والخلاف الوحيد المتبقي اليوم يتعلق بطلب إسرائيل خروجه من تحت الوصاية الإيرانية.

بالتأكيد يكسب الأسد أيضاً من ذلك الإحساس المتفاقم بالقهر لدى السوريين، إذ يبيح الغرب له استخدام كافة أسلحة الإبادة الأخرى، بما فيها أسلحة محظورة دولياً. فالواضح في النهج الغربي أنه لا يعبأ بحيوات السوريين، لكن الأهم هنا أن الغرب يتولى تكذيب نفسه بنفسه عندما يتذرع بالفيتو الروسي لعدم حماية السوريين، وفي الوقت نفسه يتصرف خارج الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر باستخدام السلاح الكيماوي. هذه الانتقائية الغربية في الاحترام الكاذب لمنظمة الأمم المتحدة هي أفضل هدية يقدّمها الغرب لبشار، لا لأنها مبرر جيد كي يتهرب من القرارات الدولية وإنما لأنها تمعن في احتقار السوريين، فوق أنها تمعن في احتقار العقل البشري، بما في ذلك احتقار عقول المواطنين الغربيين الذين تنطلي عليهم أكاذيب النخبة الحاكمة. ينبغي ألا نستثني غربياً تلك الشريحة التي قد تستنكر استخدام حكوماتها القوة خارج تفويض من الأمم المتحدة، فهذه الشريحة لا تطرح على حكوماتها السؤال الأهم إنسانياً حول عدم استخدام القوة نفسها من أجل إنقاذ السوريين.

من جهته يبدو الغرب كأنه تورط في الخط الأحمر الشهير الذي وضعه أوباما، والذي من المرجح ألا تتجاوز وظيفته آنذاك ما هو رمزي فقط، أي عزم الغرب على التدخل عند حد كان من المستبعد تجاوزه. وضع ذلك الخط يؤدي منذ البداية إلى تشريع التغاضي عن سواه حتى إذا كان يفوقه وحشية، والمعني الأساسي بتلك الرسالة هو المواطن الغربي الذي كان حينها أكثر متابعة لمشاهد وحشية الأسد التي تبثها شبكات التلفزيون. وفق الرواية الأمريكية المبكرة كان ما يحدث بمثابة حرب أهلية، ومن المألوف في مثل هذه الحروب أن يستخدم "الطرفان" الأسلحة التقليدية، أما استخدام الكيماوي فهو يكسر تلك الرواية التي ترمي إلى المساواة بين الطرفين. ولعل ما يكشف زيف الخط الأحمر أصلاً هو ذلك التدني المتواصل جراء انتهاكه، من صفقة الكيماوي التي نصت على تسليم أداة الجريمة وإبقاء المجرم طليقاً، وصولاً إلى الإقرار بكذب التسليم المزعوم لأداة الجريمة والاكتفاء بالتحذير من استخدامها مرة أخرى.

السؤال المنطقي جداً الذي يمكن أن يسأله شخص، إذا استطاع إنسانياً وأخلاقياً أن يضع نفسه مكان بشار الأسد، هو: لماذا لا أستخدم الكيماوي؟!     

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها