طيف العراق
وما هو ثابت في رواية بن رودس، هو أن أوباما كان يميل، في البداية، الى شن ضربة جزاء كيماوي، إذا جاز القول، على سوريا. لكن حرب العراق كانت ماثلة في حسابات وأفكار جايمس كلابر، مستشار الأمن القومي. فهو أبلغ رودس وسوزان رايس، أن مسؤولية الأسد عن الهجوم بالسلاح الكيماوي لم تكن بَعد مؤكدة. فهو استعاد عبارة "أمر مؤكد أو ثابت" slam dunk التي استخدمها جورج تينيت، مدير الاستخبارات الاميركية المركزية في إدارة جورج دبليو بوش، حين تأكيده امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. ويخلص رودس الى أن كلابر أراد القول من الاستعادة هذه، بأنه لن يورط الاستخبارات الأميركية في مساعي "بناء قضية" لشن حرب أخرى في الشرق الأوسط قد ينحرف مسارها وتجري على ما لا يُشتهى. وفي تقريره الصباحي أمام الرئيس الاميركي وفريقه من المستشارين، أعلن كلابر أن الأدلة كلها تشير الى أن الأسد أمر بهجوم السارين الكارثي، ثم كرر على مسمع أوباما كلمات تينيت، لكن بصيغة النفي، هذا ليس "مؤكداً" بعد. ولم تخفَ الإشارة على الرئيس الاميركي، فقال له: "لم يسألك أحد إذا كان الأمر slam dunk". وبدا أن كاهل أوباما مثقل، فهو مضطر الى الرد على الحادثة الكريهة من جهة، وهو ينوء بثقل مترتبات حرب العراق: "...استخباراته كانت قلقة من الانزلاق الى حرب، وكانت ثقة الحلفاء في مغامرات عسكرية تقودها أميركا في الشرق الاوسط، مهتزة، وكان الإعلام يشكك في صدقية البيانات الرئاسية والرأي العام يعارض الحروب الاميركية في الخارج، وكان الكونغرس ينظر الى الحرب والسلم كمسائل تُستغل سياسياً".
وبعد موقف بان كي مون، جاء موقف كلابر المتنصل من إعداد تقرير عن الحادثة واقتراحه أن تصدر الحكومة تقريرها بعد أن تتولى الاستخبارات تزويدها المعلومات، وهذا أمر غير مألوف وكان عصياً على تصديق بعض المسؤولين في دوائر الخارجية الاميركية. وساهمت المستشارة الألمانية، أنجلا ميركل، مساهمة بارزة في ثني أوباما عن قرار الضربة. وكان الرئيس الاميركي يكن لها قدراً كبيراً من التقدير والإعجاب. ولطالما أمضى الاثنان ساعات في بحث استراتيجيات تحرّك عجلة الاقتصاد العالمي أو ترص أواصر أفغانستان. ودعت ميركل اوباما الى منح مفتشي الأمم المتحدة الوقت لإعداد تقريرهم ثم اللجوء الى مجلس الأمن. وإذا حالت موسكو دون إصدار مجلس الأمن قراراً، يمضي أوباما قدماً في شن الضربة. لكن هذه العملية تقتضي أسابيع، ولم يخف على أوباما أن إرجاء الضربة الى أسابيع مقبلة، سيقيد يديه ويحول دون الرد، في وقت لا يؤيد الأميركيون الحرب.
شرك سياسي
وكان شاغل جمهوريي الكونغرس الأميركي إعداد مصيدة سياسية للإيقاع بأوباما، على قول رودس. وهو ينبه الى أن دواعٍ انتهازية شخصية وأنانية كانت ديدن الشيوخ الأميركيين. فمواقفهم كانت أقرب إلى حملة انتخابية متواصلة الفصول والاقتصاص من الخصم، منها إلى السياسة. فطوال ثماني سنوات، دافع الجمهوريون عن حق الرئيس جورج دبليو بوش المطلق في شن الحرب، لكنهم في عهد أوباما صاروا بين ليلة وضحاها مصرين على إلزام القائد العام للقوات المسلحة، أي الرئيس الأميركي، بقيود دستورية وتقييد قدرته على شن ضربات في الخارج. فأرسل له شيوخ الكونغرس رسالة يحذرونه فيها من انتهاك مبدأ فصل السلطات والتورط في سوريا حيث "لا تواجه أميركا تهديداً". ثم وجه جون بوينير، رئيس مجلس النواب الاميركي حينها، إلى الرئيس الاميركي، رسالة عدّد فيها 14 مسألة مرتبطة بالسيناريوهات التي قد تؤول إليها الامور في سوريا نتيجة التدخل الأميركي: خسارة نظام الأسد السيطرة على ترسانة الأسلحة الكيماوية ووقوعها في إيدي منظمات إرهابية وثيقة الارتباط بـ"القاعدة". ولوّح الجمهوريون بمحاسبة أوباما إذا ما شن ضربات عسكرية من دون الإحتكام الى الكونغرس.
وإثر معارضة البرلمان البريطاني، شن هجمات مشتركة على سوريا، ومطالبته الحكومة بعدم الانسياق وراء الولايات المتحدة والانزلاق الى حرب مثلما فعل توني بلير، اتصل رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون بأوما واعتذر عن عدم تقديم دعم له إذا شن عملية عسكرية. وحملت هذه العوامل كلها أوباما على التوجه الى الكونغرس وطلب مصادقته على الضربة في سوريا.
ولم تقتصر العقبات في وجه أوباما على موقف الكونغرس الشاجب والساعي الى مساءلته وإعلان دعمه وراء الأبواب المغلقة، والتنديد به أمام الملأ، ولا على غياب الدعم الأوروبي، بل حتى الحلفاء العرب ممن وجهوا الى إدارته النقد والاتهام بالضعف في سوريا، صاروا يتفادونه ويتحاشون الكلام معه. فقطع أوباما طريق رئيس الوفد السعودي إلى قمة الدول العشرين في سانت بطرسبرغ الروسية، في موقف سيارات، لمواجهته و"ليجبره على النظر الى عينيه"، على قول أوباما.
لكن هل الضربة الأميركية في نيسان/أبريل الماضي، على قاعدة الشعيرات في حمص، والتي انطلقت منها انطلقت مقاتلات حربية سورية شنت هجوماً كيماوياً في خان شيخون بريف إدلب، هي قرينة على التعافي من عَرَض حرب العراق؟ أم بينة بائنة وحسب على معايير الجمهوريين المزدوجة؟ في الأحوال كلها، طي المجتمع الدولي مبدأ مسؤولية الحماية وتركه السوريين لمصيرهم هو مرآة تعاسة أقدار السوريين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها