الإثنين 2018/08/20

آخر تحديث: 23:22 (بيروت)

ترميم حافظ الأسد

الإثنين 2018/08/20
ترميم حافظ الأسد
increase حجم الخط decrease

لم يحظَ خبر تدشين تمثال حافظ الأسد يوم الجمعة الماضي بعد ترميمه، في المدخل الجنوبي لمدينة حمص، باهتمام من إعلام الأسد. إلا أن عملية الترميم وإزاحة الستار عنه، بحضور مسؤولي المدينة وشبيحتها، تعيد إلى الأذهان إعادة تمثال حافظ الأسد إلى المدخل الجنوبي لمدينة حماة قبل نحو سنة ونصف من الآن، وكان التمثال قد أُزيل من مدخل حماة لحمايته من التحطيم والإهانة على النحو الذي ناله عدد ضخم من تماثيل المذكور التي كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها.

بحسب الأخبار أظهر موالو حمص امتعاضهم من غياب الاهتمام بالحدث، فهم قد حموا التمثال من التحطيم، بعد مهاجمته في بداية الثورة وتعرضه لجروح وكسور، وإعادته إلى الحياة اليوم ينبغي أن يُحتفى بها، تقديراً لحافظ الأسد وتقديراً لمحبتهم إياه. ثمة رمزية أخرى بلا شك في التوقيت، فالتمثال أُعيدت له عافيته في لحظة "النصر"، والحفاوة به هي أفضل فعل كيدي إزاء أولئك الذين كانوا يريدون إسقاطه وإسقاط ما يمثّله.

قد نرى في هذا ضرباً من اللامعقول "والمتوقع أيضاً" السوري، فبينما تبذل موسكو قصارى جهودها لجلب مساعدات واستثمارات بحجة عدم وجود بنية تحتية تمكّن اللاجئين العائدين من العيش تُنفق سلطة الأسد الملايين على ترميم تمثال، ولا ترى حتى أن أحوال مواليها المدقعة أولى بالاهتمام منه. لكن اللامعقول يكتمل مع حماس أولئك الموالين لاستعادة التمثال، وتفضيلهم ترميمه أيضاً على مشاريع أجدى لمعيشتهم وأكثر إلحاحاً. هذا التواطؤ من قبلهم لا يُبرره مقدار خنوعهم لسلطة الأمر الواقع، وبالتأكيد علينا البحث عن أسباب حماسهم للتمثال في مكان آخر.

مع بدء الثورة رُفعت لافتات كثيرة جداً في الساحل السوري وفي حمص تعلن الولاء لبشار الأسد بوصفه "الغالي ابن الغالي"، أو بوصف ذلك الولاء أمانة في الأعناق لأبيه، أو حتى بوصفه ولاءً لأبيه فحسب. أغلب الظن أن هذا لم يحدث في مدن أخرى، أو حدث بندرة شديدة جداً، فاستعراضات الولاء في باقي الأماكن لم تكن تسترجع رمزية حافظ الأسد، إن لم نقل أن أصحابها لا يعبؤون بها كثيراً، وأن جل اهتمامهم هو الحفاظ على مصالحهم مع سلطة الابن. هذا يؤشر إلى نوعية العقد المضمر بين بشار الأسد ومواليه، ففي حين تحضر رمزية حافظ الأسد ينتفي جزء من الحاجة إلى تبرير الولاء بالمصالح، وبشار نفسه يصبح استمراراً لرمزية تطغى عليه، أما عندما تغيب رمزية الأب فعقد الولاء يقتصر على المصالح، وبالطبع هذا يخص في الجانبين الفئات غير المرغمة على الولاء تحت طائلة القمع. المسألة الطائفية ليست غائبة عن القسمة، فالولاء لحافظ الأسد يأخذ منحى طائفياً عند الفئة الأولى، بينما يقتصر على مفهوم الولاء للسلطة القائمة لدى الفئة الثانية، من دون أن يعني لها توريث السلطة شيئاً خارج استمرار مصالحها أو عدمه.

ليس لبشار مكانة مركزية لدى مَن يوالون حباً بأبيه، رغم أنهم يُعدّون من النواة الصلبة للموالاة، وهذه النواة فضلاً عن طائفيتها لا تشترط تحقيق مكاسب لقاء موقفها. على وجه الدقة هذه النواة ربما تكون قد دفعت الثمن الأكبر منذ انطلاق الثورة، وفعلت ذلك راضية كردّ دين قديم لحافظ الأسد، الدَين المتخيَّل الذي يمكن اختصاره بأن الأب مكّنها بعد زمن من التهميش، ولولاه هو تحديداً لما تحققت تلك النقلة، الموهومة بالنسبة للبعض والحقيقية بالنسبة للبعض الآخر. عندما مات حافظ الأسد كان ممكناً ملاحظة ذلك الخوف والإحساس بالضياع لدى هذه الفئة، كان يمكن مشاهدة بعض البيوت الفقيرة أو المدقعة لأفراد منها وقد طُليت كلها بالأسود حداداً، وكان يمكن سماع أفراد منها يؤكدون رؤيتهم وجه حافظ الأسد مرسوماً على القمر بما للقمر من رمزية لاقترانه بعلي بن أبي طالب.

بالنسبة لهذه الفئة الرئيس هو حافظ، بشار لا يعدو كونه تأكيداً على ذلك، وإن لم تنجُ كفاءته من الشكوك كإبنٍ جديرٍ بأبيه. بحسب هذه الفئة كان في وسع حافظ الأسد القضاء على الثورة بسرعة واقتدار شديدين، ومن المؤكد أنه كان يستطيع استثمار تحالفاته الخارجية على نحو أفضل، بدل أن يستثمر الخارج فيه كما حدث للابن، وهو على أية حال لم يجترح تحالفات تُحسب له لأن الأب هو الذي بنى التحالفات التي أنقذته. في صراع الرمزيات هذه الفئة أقرب للذين يرون ثورتهم أساساً على حافظ الأسد، بوصفه صانع الاستبداد الذي ورثه الابن، فعلى الجهتين "ورغم الإبادة الوحشية التي ارتكبها الأخير" لا يحتل مكانة مركزية سلباً أو إيجاباً على الصعيد الوجداني.

الحديث عن خوف من الانتقام، وعن أوهام سلطة لدى علويين اصطفوا مع الأسد لأسباب طائفية، قد لا يكتمل من دون هذه الفئة التي لم تشارك سابقاً في ما يستدعي الانتقام، ولا يسمح وضعها المعيشي بأوهام سلطة، أو بأكثر من أن تكون وقوداً لسلطة. رمزية حافظ الأسد التي صنعت سرديةَ وجودٍ لهؤلاء تتكفل بسدّ ذلك النقص، ومع هذه السردية تغادر الأسدية حيزها السياسي المفترض لتتحول إلى ما يشبه الدين من حيث التعالي على الأسئلة المنطقية أو العقلانية المعتادة في السياسة. في هذا السياق يجوز أن نأخذ على محمل الجد اعتراضات قديمة للإسلاميين، كانت تركز على نهج مدروس لإسباغ القداسة على حافظ الأسد أو منحه صفاف الربوبية، فبصرف النظر عن حساسية الإسلاميين واعتبارهم غاية ذلك النهج توجيه الإهانة للدين الإسلامي يمكن القول أنه كان نوعاً من تحويل الأسدية إلى دين. على ذلك أيضاً يمكن فهم إطلاق وصف الأصنام على تماثيل حافظ الأسد التي نُشرت بإفراط، فالحساسية الإسلامية "الشعبية وغير الشعبية" وراء الوصف من الدقة بحيث تشير إلى ما تعبّر عنه تلك التماثيل في الطرف المقابل؛ من دون أن نمنح في هذا ميزة لإسلاميين يحملون أصنامهم في دواخلهم.

عودة "صنم" حافظ الأسد إلى حمص ضرورية، لأنها تأكيد على بقاء الأسدية ودوامها، إذ من دون "الرب" يسقط الكثير من مقوّمات الأسدية، ومن ضمنها الولاء لوريثه. امتعاض الموالين المعنيين بالحدث لأنه لم يأخذ مكانة إعلامية جديرة به هو امتعاض من موالين أعلى، أو ربما من الحلقة العائلية الحاكمة نفسها، لأنها أقل أسدية مما ينبغي. لكن ما يغيب عن بالهم، وما ينبئنا به تاريخ الكهنوت، أن الذين في أعلى الهرم هم الأقل إيماناً والأكثر متاجرةً، بينما تقوم قاعدته على الأكثر إخلاصاً وحماساً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها