الثلاثاء 2018/07/31

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

البيت الأبيض والرجل الضعيف

الثلاثاء 2018/07/31
البيت الأبيض والرجل الضعيف
من التظاهرات في 29 يونيو 2013 (غيتي)
increase حجم الخط decrease

في مطلع العام الحالي، أثأر الصحافي الأمريكي، ديفيد كيركباتريك، جدلاً واسعاً، بسبب تقرير له تضمن تسريبات مسجلة لضابط مخابرات مصري مزعوم. واضطرت الحكومة المصرية، ممثلة في الهيئة العامة للاستعلامات، حينها، إلى إصدار بيان رسمي لنفي التسريبات وما احتوته من ادعاءات عن توجيهات أملتها المخابرات على وسائل الإعلام بشأن وضع مدينة القدس بعد الاعتراف الأميركي بها كعاصمة لإسرائيل.

عاد كيركباتريك، المدير السابق لمكتب جريدة "نيويورك تايمز" في القاهرة، يوم الجمعة الماضي، بمقال له في الجريدة نفسها، بعنوان "البيت الأبيض والرجل القوي"، كاشفاً عن كواليس الموقف الأميركي من 30 يونيو، ومن ثم صعود السيسي إلى الحكم. ورغم أن الضجة التي أثارها التقرير الأول ألقت بشكوك مبررة حول مهنية كيركباتريك، ومصداقية معلوماته ودقتها، فإن تقريره الأخير، مع شيء من التحفظ على بعض تفاصيله، يبدو جديراً بالاهتمام.

ينقل كيركباتريك، الكثير من التصريحات الخاصة والمعلنة، والتعليقات الشخصية لمسؤولين أميركيين في إدارة أوباما، خلال الفترة الحرجة التي سبقت 30 يونيو وتلته. وفي ذلك السياق، يكشف عن خلافات داخل وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون، بخصوص الموقف في مصر. لا يقدم المقال الكثير مما لا نعرفه، فاستراتيجية أوباما في المنطقة لطالما اتسمت بالتردد، وكان واضحاً انقسام إدارته بين ترحيب حذر بـ"الديموقراطية"، وتوجس من نتائجها وأثمانها. لكن أكثر ما يطرحه كيركباتريك، جوهرية، هو أن السياسات الأميركية بخصوص المنطقة لم تتغير كثيراً بعد فوز ترامب في الانتخابات. بل إن السياسة الحالية، تجد جذورها في فترة حكم أوباما، وليست إلا استمراراً لها، مع بعض الخشونة، لا أكثر.

ويلقي المقال مسؤولية القبول الأميركي باستيلاء الجيش على الحكم في مصر، على جناح داخل المؤسسات الأميركية، أكثر محافظة و"واقعية". فذلك الفريق، كان يرى أن حكم الجيش كان الأمر الواقع في مصر، منذ عقود، وأنه لا أمل في تغيير ذلك قريباً، وبالتالي يجب التعامل مع الموقف على هذا الأساس. وبتقديم أولوية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وتحالفاتها الإقليمية طويلة المدى، سواء مع إسرائيل أو دول الخليج التي أقلقها وصول "الإخوان" إلى السلطة، فإن خيار الاستقرار بأقل الخسائر الممكنة، كان هو الرابح في النهاية.

لكن التقسيم التقليدي الذي يقدمه كيرباتريك، للإدارة الأميركية، بين يمين ويسار، وحمائم وصقور، يضع المسؤولية على جانب واحد دون الآخر. إلا أن أوباما نفسه، وأعضاء إدارته الأكثر "ديموقراطية"، ربما يتحملون النصيب الأكبر من مسؤولية رسم الموقف الأميركي في المنطقة. فالاحتفاء المبدئي بثورات الربيع العربي، وبالأخص في مصر، والذي ظهر بتخلي أوباما عن مبارك علناً، حركته تصورات نموذج الثورات الملونة. وكان المثال الملون للتغيير السياسي المخملي، مؤسساً لقناعة بأن التحول الديموقراطي عملية حتمية في النهاية. ففي خطبة أوباما الشهيرة في جامعة القاهرة، العام 2009، توجّه إلى العالم الإسلامي، وقال بخصوص بند الديموقراطية: "ومع ذلك يلازمني اعتقاد راسخ بأن جميع البشر يتطلعون إلى امتلاك قدرة التعبير عن أفكارهم وآرائهم في أسلوب الحكم المتبع في بلدهم، ويتطلعون إلى الشعور بالثقة في حكم القانون وفي الالتزام بالعدالة والمساواة".

ربما لا تضع تلك القناعات، أوباما، في الفريق نفسه مع منظّري "نهاية التاريخ"، لكنها بلا شك تؤكد إيمانه بأن الديموقراطية وحكم القانون، غريزة أساسية وأصيلة، وبالتالي هي طبيعة الأمور. ولا يقودنا هذا سوى إلى النتيجة نفسها، أي نهاية التاريخ، من طريق آخر. هكذا، يبدو انتصار الديموقراطية مؤكداً. وقياساً على نموذج تأثير الدومينو بعد سقوط سور برلين، والذي صب في النهاية في صالح المعسكر الغربي، فإن إدارة أوباما رحبت بالثورات العربية في البداية، بوصفها انتقالاً مخملياً إلى رحاب العالم الحر وسيادة الديموقراطية وحسم معضلة الإسلام السياسي.

وبالطبع لم تتطور الأمور في الاتجاه المفترض. ولم تكن مشكلة نموذج الثورة الملونة، في سذاجته. بل لأنه عاجز عن طرح استراتيجيات للفعل، يمكن توظيفها حالما يسلك الواقع طريقاً مغايراً للنموذج المثالي. وفي غياب البدائل، لم يكن أمام أوباما سوى التسليم بموقف الأصوات الأكثر محافظة، والرجوع إلى سياسة الأمر الواقع، والعودة إلى الحلفاء التقليديين لحفظ الاستقرار. فأصحاب ذلك التيار هم وحدهم من كان لديهم نموذج للعمل، ومجرّب أيضاً.

هكذا، فإن التردد الأميركي، والمواقف المهتزة للبيت الأبيض بخصوص المنطقة، أثناء ولاية أوباما، لم تكن بالضرورة بتأثير ممن يظنون بأن الشرق الأوسط غير صالح للديموقراطية. بل على العكس، كان بفعل أولئك الذين حرّكتهم قناعة بأن الديموقراطية حتمية، وأن التحول إليها في المنطقة، كما في كل مكان آخر، قطعيّ، وكان هذا يعني ضمنيا بأنها لا تحتاج مساعدة من أحد. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها