الأربعاء 2018/07/25

آخر تحديث: 20:53 (بيروت)

رسالة من أميركا:الميديا ضحية ترامب

الأربعاء 2018/07/25
رسالة من أميركا:الميديا ضحية ترامب
ترامب يخوض معارك مع الميديا منذ وصول (Getty)
increase حجم الخط decrease
عندما انتقلت إلى بيروت للمرة الاولى، مع زوجي اللبناني السابق عام 1993، كانت الحرب قد انتهت قبل ما يقرب من ثلاث سنوات والحديث المتحمّس عن إعادة بناء بيروت، "المدينة العريقة للمستقبل"، كان يسيطر على موجات الأثير والمحادثات اليومية. لكن الضرر الذي لحق لم  يأتِ فقط على شكل المباني المدمرة ونقص الكهرباء والمياه؛ كان الواقع الاجتماعي اليومي المشترك متضرراً أيضاً من الحرب. كان من الصعب عليّ الحصول على موطىء قدمي، لفهم ما كان يحدث، ولمعرفة من يجب الوثوق به، وتحديد أي معلومات كانت صالحة. عند التعامل مع الأشخاص في المبنى الذي كنّا نسكن فيه أو في العمل شعرت دائمًا بعدم الاستقرار. هل كنت "على نفس الموجة" مثلهم؟ هل كان هناك حتى ما يسمى "نفس الموجة" في لبنان بعد الحرب؟
كنت أدرّس مادة "تسلسل الحضارة" في حرم الجامعة اللبنانية الأميركية (معهد بيروت الجامعي آنذاك) في جبيل، لعدة أشهر قبل أن أعلم من خلال تلميذي أن الشائعات تدور حول أنني كنت ماركسية مؤيدة للفلسطينيين، إذ أنني كنت قد قضيت العامين السابقين في إجراء بحث ميداني كباحثة في برنامج "فولبرايت" للحصول على درجة الدكتوراه في علم الإنسان الاجتماعي في الناصرة، وهي أكبر مدينة فلسطينية في إسرائيل. لقد قدمت عرضًا في الحرم الجامعي عن عملي الميداني حول أزمة الهوية والتمثيل الذي واجه حكومة بلدية الناصرة التي يهيمن عليها الشيوعيون في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية حرب الخليج عام 1991.
كان زوجي السابق يدرّس في الجامعة نفسها آنذاك لكن في حرم بيروت الغربية، وغالباً ما كنت أذهب معه إلى هناك في يوم إجازته لمقابلة زملائه وزيارة أصدقائي من مدرسة الدراسات العليا الذين كانوا يدرسون في الجامعة الأميركية في بيروت. وفي أحد الأيام وخلال وجبة غداء ألقى أحد الزملاء "مزحة" حول كوني يهودية. لكن سرعان ما أدركت أنه لم يكن يمزح حقاً، وأنه نظراً لموضوع البحث الميداني الخاص بي والمكان الذي أقمت به، فإن الشائعات في حرم جامعتنا في غرب بيروت كانت أنني يهودية، إسرائيلية، و/أو جاسوسة إسرائيلية. 
في كلا الحرمين، لم تكن هذه مجرد تأملات؛ بالأحرى، تم نسج قصص كاملة خلف ظهري "لإثبات" أنني كنت إما مؤيدة لمنظمة التحرير الماركسية أو جاسوسة إسرائيلية، وكل ذلك داخل الجامعة نفسها! حقائق متفرقة في مناطق سياسية ممزقة. كان من المدمر إدراك أن قصتي كانت مكتوبة وأُعدّت من قبل أشخاص لم أكن أعرفه، وأن تلك التخمينات المتوحشة تحولت بسهولة إلى "حقائق" يتقاسمها الكثير من الناس في غضون عام أكاديمي واحد فقط.
وبالمثل، كان من الصعب تفسير معنى وآثار الأحداث المحلية. في إحدى الليالي كنت أضع البنزين في مولد الكهرباء على شرفتنا في كانون الأول/ديسمبر 1993 عندما انطلق صوت انفجار مشؤوم من وسط المدينة وتردد صداه على تلال عوكر خلف بنايتنا. كان جارتي تسير مع كلبها في الشارع أسفل المبنى. سألتها: ماذا كان ذلك؟، أجابت باللهجة اللبنانية العامية أنها لا تعرف وأنه قد يكون انفجاراً، قبل أن تعود إلى منزلها. لم يكن لدينا تلفاز في ذلك الوقت، ولكن كان لدينا راديو على الموجة القصيرة. وبهدف الحصول على بعض المعلومات لإدراك ما حصل، قمت بتشغيل الراديو على محطة "بي بي سي". لا يوجد أخبار هناك. حاولت إذاعة "مونتي كارلو". لا يوجد شيء أيضاً. كانت طاولة غرفة الطعام الخاصة بنا، كالعادة، مغطاة بالصحف: "السفير" و"النهار" و"لوريون لوجور" و"إنترناشونال هيرالد تريبيون". كان علي أن أنتظر صحف اليوم التالي لإدراك ما كان يحدث.
بعد ساعتين، توقفت جارتي في الطابق العلوي لتقول إن انفجاراً استهدف مقر حزب "الكتائب" في الصيفي ، وأن شخصاً ما قد توفي. كيف عرفتي، سألت؟ سمع أهل زوجها الأرمني ذلك من شخص ما ثم أخبروها عندما دعوها للحديث عن خطط عيد الميلاد. تلك هي وسائل الإعلام الاجتماعية، حوالي عام 1993.
في الأيام التالية، سمعنا العديد من النظريات حول من قام بالتفجير، وكلها لا تستند إلى تقارير واقعية، بل بالأحرى، على طريقة "التثليث" على أساس الإجابة على السؤال "من الذي استفاد؟" اعتماداً على أين كنت تعيش أو ما هي خلفيتك الطائفية، كان ذلك يعني أنها ربما إسرائيل، أو سوريا، أو الولايات المتحدة، أو "الكتائب" نفسها. تلك التفسيرات غير القابلة للتصديق، جعلت من كل واحدة من هذه الاحتمالات "معقولة" بالقدر نفسه.
شعور "دوار البحر" الذي يجعلك لا تدرك ما يجري من حولك، أو التساؤل الدائم "هل أنا على نفس الموجة؟" مع الناس حولي، بات حقيقة يومية الآن في أميركا حيث "الأخبار المزورة" ونظريات المؤامرة المتوحشة. العالم المشترك والمشاركة في المعرفة والتقييم يختفي. وسائل الاعلام تتعرض للهجوم. لا يمكن للمرء أن يعتبر أنه من المسلّمات أن من يتحاور معهم يشاطرونه الأطر ذاتها للمعنى والمعلومات. إن الشعور بعدم الارتياح الذي شعرت به في كثير من الأحيان خلال العام الأول في لبنان قد عاد، لكنه تضخم بشكل كبير، لأن هناك الآن الكثير من وسائل الإعلام التي يجب أن يتم فرزها. في بيروت، لجأت إلى الراديو والصحف لمعرفة ما يجري. كانت السلطة الرابعة في لبنان ما بعد الحرب متنوعة وصحية وموثوقة إلى حد كبير.
في الولايات المتحدة اليوم، يهاجم رئيسنا السلطة الرابعة: "سي إن إن"، "أم أس أن بي سي"، "نيويورك تايمز"، "واشنطن بوست"، "تايم"، بشكل يومي ويصفها بأنها "أخبار مزيفة". حتى إنه يرفض الإجابة على الأسئلة التي يطرحها المراسلون من "سي أن أن" في المؤتمرات الصحافية، ويتكهن أن "سي أن أن" قد لا تكون موجودة بعد خمس سنوات من الآن.
ترامب يحترم ويستجيب لـ"فوكس نيوز" فقط، التي يمكن أن تكون كل شيء إلا قناة "عادلة ومتوازنة". وخلافاً للبنان في عام 1993، لدينا أيضاً السلطة الخامسة الآن، إنها الإنترنت، وسائل التواصل الاجتماعي، يوتيوب، تويتر، إنستغرام، سناب شات، خط الأخبار العاجلة في وقتها الحقيقي. بالنظر إلى مقدار الوقت الذي يقضيه الأميركيون على الإنترنت، ليس فقط على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، ولكنهم في كثير من الأحيان يحدقون في هواتفهم الذكية، فإن السلطة الخامسة هي واقعنا المشترك الجديد - ولكنه مجزىء للغاية - للمصادر الإخبارية المتعددة، والتي غالباً ما توفر "حرارة أكثر من إضاءة".
أصبحت السلطة الخامسة مصدراً للذخيرة، بدلاً من المعلومات. وبالنظر إلى المناقشات على "فايسبوك" وتغريدات الحرب على "تويتر"، يبدو أنه لم تعد هناك أي نقاط مرجعية مشتركة. الغضب، المرارة، والانتقام هي المشاعر الرئيسية المتداولة عبر الانترنت. حدد الموقف الذي تتخذه بشأن مشكلة ما، ويمكنك العثور على موقع إلكتروني، أو حساب "تويتر"، أو صفحة على "فايسبوك" تعكس صدى مشاعرك. بالنسبة للكثيرين من الأمريكيين، فإن حساب "تويتر" الخاص بالرئيس دونالد ترامب نفسه قد حل محل مصادر الأخبار التقليدية. وتستند العديد من القصص والتحليلات التي تنتجها السلطة الرابعة على التغريدات العجيبة لترامب أو المرتبطة بها.
قبل عقدين من الزمن، رأيت الإنترنت بمثابة مسار تصحيحي محتمل لإخفاقات السلطة الرابعة. يمكن لسرد الأحداث من قبل الناس الذين يعاينونها على أرض الواقع تعزيز وزيادة التقارير الإخبارية السائدة من الإعلام التقليدي، وحتى مناقضة التحليلات المبنية على أساس التزامات أيديولوجية سابقة.
في العام 2001 ساعدت مع ثلاثة نشطاء آخرين، في تأسيس الانتفاضة الإلكترونية. في البداية، كان هدفنا هو حشد الآلاف من القراء لكتابة رسائل إلى محرري الصحف والبرامج التلفزيونية والإذاعية التي تنتقد تصوير وسائل الإعلام السائدة للصراع الفلسطينيي الإسرائيلي على انه نزاع. لقد قدمنا نقاط الحوار، روابط للموارد، وعمليات الإرشاد، حيث سمحنا لقرائنا بأن يعرفوا أنه يمكنهم لعب دور في تأطير الأخبار عن طريق الإشارة إلى وسائل الإعلام التي تعتمد على مصادر فقيرة، أو لا توجد لديها مصادر على الإطلاق. في غضون عام واحد، أصبح من الواضح أن التغطية الإعلامية الأميركية للوضع الإسرائيلي الفلسطيني كانت دون المستوى ومضللة، ليس لأن الصحافيين والمحررين افتقروا إلى المعلومات الصحيحة، بل لأنهم لا يريدون المعلومات التي نقدمها. لم يكلفهم أي شيء لنشر قصص وهمية تدعم وجهات نظر "الليكود" أو اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة.
إذا لم نتمكن من استخدام موقعنا الالكتروني لإبقاء وسائل الإعلام السائدة قابلة للمساءلة، فقد قررنا أن نكون نحن وسائل الإعلام التي أردنا رؤيتها، وبدأنا في تحويل جهودنا باتجاه قصص كتبها أشخاص في غزة والضفة الغربية وأماكن أخرى، يخبرون قصصهم مباشرة إلى جمهور عالمي. أن نكون نحن وسائل الإعلام، بدلاً من مجرد انتقاد وسائل الإعلام، كان يعني أن نكون خاضعين للمساءلة وأن نقوم بالكثير من عمليات فحص الحقائق لمجموعة واسعة من المصادر، إضافةً إلى إقامة اتصالات مع الكثير من الأشخاص الحقيقيين على الأرض في الضفة الغربية وغزة لتأكيد تقارير كنا على وشك نشرها. سرعان ما استغلت وسائل الإعلام السائدة تقاريرنا واستشهدت بها.
على الرغم من أن الرئيس ترامب يشكو من "الأخبار المزورة" كل يوم، فإن الافتقار إلى الشفافية والمساءلة داخل السلطة الخامسة يمثل مشكلة حقيقية، وهي مشكلة تفيد ترامب ومؤيديه أكثر مما تؤذيهم. هناك الكثير من الحسابات المزيفة على الإنترنت، والتي تمثل جميع النقاط في الطيف السياسي. ولإدراك الخلفيات، أجد أنه من المفيد أن أسأل "من المستفيد" عندما أقرأ كل منشور جديد على "تويتر" أو "فايسبوك"، بالإضافة إلى تقارير وسائل الإعلام الرئيسية المستمدة من قاعة المرايا التي هي السلطة الخامسة. نحن بحاجة إلى نظام أفضل لكي نفكر ونعمل كمواطنين مسؤولين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها