الثلاثاء 2018/07/24

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

لكل سنة حضارة.. شائعة

الثلاثاء 2018/07/24
لكل سنة حضارة.. شائعة
الإحباط خيانة.. مؤامرة يتصدى لها العسكريون الشباب (غيتي)
increase حجم الخط decrease
تنطلق في مصر سبعة آلاف إشاعة في الشهر، شائعة لكل سنة من سنوات حضارتنا المصرية العريقة، أي حوالى 233 شائعة كل يوم، وبمعدل عشر شائعات في الساعة الواحدة. لم يذهب الرئيس المصري إلى كل تلك التفاصيل، بل اكتفى بالإشارة إلى أن السلطات رصدت 21 ألف شائعة في ثلاثة أشهر. ولم يتطرق السيسي في كلمته التي ألقاها، الأحد الماضي، خلال حفلة تخريج الكليات العسكرية، إلى تصنيفات تلك الإشاعات، أو إن كان هذا هو العدد الإجمالي لكل الشائعات والنميمة، أم إنها تلك الإشاعات التي تهدد الدولة وتعني السلطات فقط. ففي النهاية، في بلد يبلغ عدد سكانه مئة مليون نسمة تقريباً، يبدو معدل شائعة كل 6 دقائق، أقل من المتوقع. ولا يمكن الحكم بالتأكيد، إذ لا إحصاءات موثقة، لا في مصر ولا البلدان الأخرى، للمعدلات اليومية للشائعات. ولعل إدارة الرئيس السيسي سبّاقة في هذا المجال.

لكن تلك المعلومة العابرة التي كشف عنه الرئيس، لا تخبرنا عن الشائعات، بقدر ما تخبرنا عن السلطات واهتماماتها. فكما في رواية "قصر الأحلام"، للروائي الألباني إسماعيل كاداريه، إدارة هائلة ذات أفرع في كل جهات المملكة معنية برصد الأحلام، وفرزها وتحليلها، يمكن أن نتخيل إدارة مماثلة حيث يعمل مئات الموظفين المصريين المخلصين. وبكل جهد تقوم أفرع الإدارة الموزعة في كل محافظات البلاد، برصد كل شائعة، ساعة بساعة، وتبويبها وتسجيل معدل انتشارها، وسرعتها، ووسائل انتقالها، ومن ثم رفع تقارير عنها لإدارة أخرى للتعامل معها.

كانت رواية كادرايه تسخر من هشاشة الإمبراطورية العثمانية في مراحلها الأخيرة، ومن البارانويا التي تتملك الأنظمة القمعية التي تتخيل خطراً في كل حلم، وتهديداً في كل كابوس، فلا تكتفي بالتفتيش في الضمائر، بل تحاصر مواطنيها في غفواتهم، وتتجسس عليهم في منامهم كما في صحوهم. لكن بيت الشائعات ليس كبيت الأحلام، فالشائعات لا هي من فيض العقل الباطن ولا هي علامة إلهية. فالرئيس كشف لجمهوره من ضباط المستقبل، أن هناك "منظومة رهيبة" من وراء ماكينة الشائعات، وتعمل بهدف واحد "هو تحريك الناس لتدمير بلادهم". فالأمر مؤامرة، ويجب أن تؤخذ على محمل الجد. فالسيسي يؤكد لمستمعيه بأن "هذا هو الخطر الحقيقي لتفجير الدول من الداخل". يجهز القائد الأعلى للقوات المسلحة، الضباط الخريجين للخطوة الأولى في عملهم القتالي، فالخطر الحقيقي في الداخل، وأسلحتهم التي تحمي البلاد يجب أن توجه إلى الداخل. والحروب التقليدية، حين كانت الدول تحارب بعضها بعضاً، انتهت. اليوم نحن في حروب الجيل الخامس والسادس وما بعدها، حيث يحمل أبناء الجيش الوطني أسلحتهم ضد مواطنيهم من مروجي الشائعات.

كل إشاعة هي قنبلة موقوتة، وكل مروج لها هو انتحاري. وربما تبدو تلك مهمة عسيرة على أبناء الكليات العسكرية، فكيف لهم أن يتصدوا لآلاف الشائعات، تلك التي تسري في الظلام، وخلف الأبواب المغلقة، وفي الضمائر الخربة؟ وكيف يمكن التحكم في الملايين من مروجيها، وعشرات الملايين من المستمعين لها كل يوم من الغافلين؟ إلا أن الرئيس لا يترك أبناءه العسكريين في حيرتهم، فهناك علامات للتوجس: "الضغط والشائعات والأعمال الإرهابية وفقدان الأمل والإحساس بالإحباط".

يضع السيسي الأعمال الإرهابية في المرتبة الثالثة، فالإحساس بالضغط أكثر فتكاً من القنابل، والشائعات أفدح خطراً من المفخخات. أما اليأس والإحباط، فعلى قواتنا المسلحة الوقوف لهما بالمرصاد. كل يائس خائن، وكل محبط مخرِّب، وطلقة في الرأس أقل ما يستحق. لكن الرئيس لا ينفي أن هناك أسباباً حقيقية للشعور بالمعاناة، لكنه يقارن بين "تضحيات الشعب في سبيل تجاوز الأزمة الاقتصادية" وبين "تدمير الدولة وإحداث الفوضى"، ويقول إن معاناة هذا غير معاناة ذلك. يخبر الرئيس أبناء الجيش، أنه لا سبيل سوى تضحية الشعب، وإن رَفَض فريق منه التضحية، فللأسف ليس هناك أمامه سوى التدمير والفوضى. هكذا تصبح التضحية واجباً لا خياراً، والمعاناة مصيراً نلاقيه من دون رفاهية الإحباط أو الشكوى.

لكن إلى أين يقودنا ذلك كله؟ لا يتركنا الرئيس في حيرتنا كعادته، ويلقى لنا بواحدة من نبوءاته الصادقة دائماً: "التدمير لبلادنا مش هيكون غير من جوانا"، وربما سيحدث هذا بلعنة من شائعة واحدة تفلت من "بيت الشائعات" أو بجريرة مواطن واحد، ضعيف الإيمان، يسقط في فخ اليأس أو حبائل الإحباط.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها