الأحد 2018/07/22

آخر تحديث: 18:13 (بيروت)

هل قرأت نصر أبو زيد؟

الأحد 2018/07/22
هل قرأت نصر أبو زيد؟
increase حجم الخط decrease

أسعدني الاحتفاء بنصر حامد أبو زيد بمناسبة عيد ميلاده ال 75، والمؤتمر الذي أقامه تلامذته بعنوان ما بعد مفهوم النص ونشرت أبحاثه دار العين بعنوان القرآن من النص إلى الخطاب، عاش نصر لكتاب الله، محروما من التفهم، من قرأوه حملوه مسئولية أفهامهم، ومن لم يقرأونه من "السواد" رددوا كلاما معلبا خلف من تصوروا أنهم قرأوه، وظل الرجل محاصرا بقراءة لم ينتجها ولم يقصدها، بل لعله قصد ضدها، كان نصر أبو زيد فرصة الأصوليين، إذا ما استثمروها، في إعادة النص إلى الزمن، بدلا من تحنيطه، والاحتفاظ بجسمه وعظامه دون روحه، كانت قراءته التاريخانية إنقاذا للنص من أن يتحول إلى تاريخ، إلا أن حراس الماضي تحت دعاوى "الهوية" المراهقة أهدروها، وطاردوه في وطنه وفي منفاه إلى أن لقي ربه ..


داعية سعودي شهير، يتابعه الملايين على الفضائيات وتويتر، وجدته متحمسا دون مناسبة، يسب أبي زيد، ويتهمه في عقيدته بشناعة، لاحظت أنه ينتقي أفكارا بعينها، من كتب ومقالات لنصر وردت في كتاب لمفكر إسلامي تقليدي، راهنت نفسي أن أبا العريف السعودي لم يقرأ سطرا لنصر إنما بدأ بنقاده لينتهي عند أولهم، وقد كان، تابعت الحوار من أوله إلى آخره، لم يتجاوز الرجل كتيبا من الكتيبات الصفراء تتحدث عن نصر بشغب وصبيانية وتتصيد ما تصور صاحبها أنها حجج وأدلة وبراهين على عداء أبي زيد للنص القرآني ونفيه لمصدره الإلهي ..


حين تطرح فرية أن نصر أبو زيد لا يرى القرآن نصا إلهيا في الأوساط العلمية وبين قراء نصر الذين يعرفونه جيدا، يعرفونه مما كتب لا مما كتب عنه، تتحول إلى "إفيه" للتندر على صاحب المقولة أو مقتبسها، نصر أبو زيد متهم من خصوم النص أنه ينطلق من الأرضية نفسها التي ينطلق منها الأصوليون، وأنه ينتصر لقدسية النص أمام القائلين بأرضيته، وأنه يقر بإلهية الدال دون المدلول، وأن معركته مع المدلول كانت لصالح النص وقدسيته وفاعليته واستمراره، فكيف استطاع أحدهم أن يلتف حول كل هذا ويقلبه إلى ضده تماما ثم يقنع به الآلاف، ويضطر أبو زيد أن يركض خلف عقله في بلاد باردة وجد فيها من الدفء ما لم يجده بين أهله الذين عاش لهم فيما أرادوا اغتياله؟!


هل يمكن لكذبة أن تستمر لعشرات السنين رغم توفر كل مقومات نفيها؟ أقول نعم، يمكن لكذبة أن تستمر ألف سنة طالما أن الكاذب هو الأقرب للناس، بلغته، بخطابه، بشعبويته، بكثرة أنصاره، بنفوذه، هل هي مسؤولية نصر، أو فريقه أم مسؤولية المؤسسة والمجتمع القابل للاستخراف؟ أتصور أن المسؤولية مشتركة، وأن اغتراب لغة الخطاب عن محيطها لا يقل خطورة عن نجاحات حراس التخلف الدائمة مع الناس ...


الأمر نفسه تكرر مع نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، الرواية التي اتهم بسببها بالكفر، ذلك لأن أحدهم قرر أنه قرأها وفهمها وفهم منها عدوانها على الإله ذاته، فيما كان نجيب يحاول جاهدا أن ينتصر لرؤية ثقافته وحضارته حول الإله أمام حضارة أعلنت موت الإله/ الجبلاوي، ويعلن في مباشرة تجاوزت لغة الفن في بعض مواضع الرواية حرصا على وضوح الهدف وهو أن العلم/ السحر ليس كافيا، وأن الإنسان الحديث لن يعيش بغير الإله، وإذا كان غرور العلم كان سببا كافيا لقتله لفكرة الإله فالعلم نفسه سيكون وسيلته للبحث عن خالقه من جديد وإعادته للحياة، قالها نجيب بلغة الرواية لا بلغة الفقيه، فناله من ضحالة الفقيه وعجزه عن الإحاطة بمجازات الرواية ورموزها ما ناله،  قرر "الشيخ" أن نجيب كافرا، وكرر من ورائه الآلاف محفوظ كافر ووصل الأمر إلى ترديد خرافات من نوعية أن جائزة نوبل كانت احتفاءا من الغرب بكفر محفوظ، الذي يتوافق مع كفرهم، وأنهم كتبوا في ديباجة الجائزة ما يفيد ذلك، ورغم فجاجة الكذبة وسماجتها وإمكانية كشفها بسهولة إلا أنها استمرت وراجت وتكررت ليتحول الروائي الأكثر انحيازا لقضايا أمته، إلى متغرب كافر قاتل للإله!


يمكنك أن تسحب ما حدث مع النموذجين السابقين على أغلب النماذج التي قرر أحدهم يوما ما كفرهم أو ردتهم أو تفسيقهم أو تبديعهم أو اغتيالهم المعنوي بأي شكل فضغط على زر تشغيل القطيع وسحب الحاضر من تحت قدم ضحيته ليلقي به إلى عدم المستقبل مطرودا من رحمة الناس حيّا وميتا ..


يحدث أن يتغير بعض الاستثنائيين، القليلين بطبيعة الحال، يقرر أحدهم أن يحكم بنفسه، أن يقرأ بنفسه، أن يسمع من المتهم لا عنه، أن يعتمد ولو لمرة على نفسه في تكوين قناعاته وأفكاره، أن يرى بعينه لا بعمى غيره، فيدهش، دهشة المعرفة، ودهشة الصدمة، ويتحول إلى خصم متطرف لمن خدعوه في السابق وينتقم من كل لحظة صدقهم فيها بعدائهم وتكذيبهم في الحق قبل الباطل، فيكونوا بذلك قد دمروه مرتين، مرة حين كذبوا عليه، ومرة حين اكتشف كذبهم، وتظل الدائرة مفتوحة على انغلاقها ...


والآن، جرب أن تقرأ بنفسك لكل من تصورت يوما كفرهم العقدي، أو خيانتهم الوطنية، أو عمالتهم السياسية أو الحضارية، ربما تكتشف أنك بدورك كافر وعميل .. رحمة الله على الصادقين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها