السبت 2018/07/21

آخر تحديث: 06:47 (بيروت)

الحق في أن يكون لنا قبور

السبت 2018/07/21
الحق في أن يكون لنا قبور
increase حجم الخط decrease

كان من حظ بعض السوريين في الأيام الأخيرة شراء مهلة إضافية من الأمل الشخصي، ذلك حسبما بات معروفاً يقتضي من ذوي المعتقلين المبادرة إلى استخراج قيد عائلي من دوائر النفوس، وإما أن يظهر القيد وفاة المعتقل أو لا يظهرها. في الحالة الأولى يُفترض أن يتخلص الأهل من التعلق بالآمال، وسيكتشف الكثيرون منهم أنهم عاشوا فترة مضافة من الأمل بلا دراية منهم، لأن تاريخ وفاة المعتقل يعود إلى سنوات خلت. وبالطبع كلمة "وفاة" هنا هي كلمة تقنية، مع معرفة الجميع بأنها قد حدثت تحت التعذيب، أو على الأقل ضمن ظروف متعمدة من الإهمال الغذائي والطبي، بما يرقى في كل الأحوال إلى اعتبارها جريمة إبادة.

قبل مدة قصيرة كانت مخابرات الأسد قد عمدت إلى إبلاغ قسم من الأهالي بمقتل معتقليهم عبر المخاتير، ويبدو أن هذا الإجراء كان مربكاً على الصعيد الإداري، وقد تسبب ببعض الإشكالات لبعض أفرع المخابرات التي رفضت إعطاء شهادات وفاة للأهالي الذين قاموا بمراجعتها بناء على بلاغ المختار. في كل الأحوال من الواضح أن تنظيم الأسد قد قرر إقفال ملف المعتقلين على طريقته، والحديث هنا لا يزال يدور عن مصير حوالي مئتي ألف معتقل لا يُعرف مصيرهم، وهذا العدد هو تقريباً ربع حالات الاعتقال التعسفي منذ انطلاق الثورة، حيث تشير بعض الإحصائيات إلى أن عددها الكلي قد بلغ نحو 800 ألف.

عندما واجه حافظ الأسد تمرد الإخوان المسلمين، قبل نحو أربعة عقود، أيضاً كان مصير المعتقلين "بمن فيهم المشتبه بهم فقط" نوعاً من أدوات التعذيب الجماعي، إذ يُخفى مصير المعتقل نهائياً، ولا يتجرأ الأهالي على مجرد السؤال عن الأبناء والأخوة والأزواج إلا بشكل موارب وعبر دفع رشاوى باهظة جداً. ومع موت الأب وتوريث الابن بقي مصير الآلاف من معتقلي تلك المواجهة مجهولاً رسمياً، فلا شهادات وفاة تؤكد مقتلهم ولا أخبار عن وجودهم أحياء، رغم أن الاحتمال الأخير منعدم.

وإذا كان الأب صاحب نهج تعذيب الأهالي بالأمل وانعدامه معاً فالابن يبدو قد حزم أمره على تعذيبهم بانعدامه فقط، وتزامنُ هذه الخطوة مع الانتصارات التي حققها له حلفاؤه يُفهم على نحو واحد، هو أنه لم يعد يعبأ بالتستر على جرائمه، وما دام مصير أطنان الوثائق التي تدينه بمختلف الجرائم في المحافل الدولية بقي الإهمال فهذا يعني ترخيصاً له بالقتل وإشهار الجريمة. أي أن المسألة ليست في أية لحظة بمثابة إطلاق رصاص الرحمة على الأمل الكاذب الذي يعيشه أهالي المعتقلين المقتولين، وإنما لسحق الأهالي والتشفي بهم وبعجزهم.

وأن يعرف بعض الأهالي مثلاً أن ابنهم قد قُتل قبل أربع سنوات، عاشوا خلالها على أمل عودته، فهذا نوع من التعذيب الإضافي، نوع من إعلان الاستهتار بقلقهم وعذاباتهم طوال تلك المدة. ربما يلزمنا قدر كبير من الجهد النفسي لنضع أنفسنا مكان أولئك الأهالي، ولنتخيل ما يعنيه إهدار وقت طويل جداً وثقيل الوطأة لمجرد وجود مجرمين متوحشين يملكون ترخيصاً لقهر الآخرين، وللتفنن بطرق تعذيبهم. وكما نعلم فإن هذا التعذيب لا يمسّ فقط المعنيين بأثر رجعي عن تلك السنوات، وإنما يمسّ تالياً أولئك الذين لم تثبت الأوراق بعد مقتل معتقليهم، ولا يُستبعد في أي وقت قريب حصولهم على ورقة تؤكد مقتل أحبتهم قبل سنوات، بالقدر الذي لا يُستبعد فيه إيقاف هذا الإجراء كلياً "تبعاً لمزاج وإرادة القتلة" وترك ما تبقى من الأهالي في دوامة الشك والقلق.

ولعلنا نخطئ إذ لا نأخذ باعتبارنا أولئك الأهالي الذين لم يصدّقوا رحيل أحبتهم رغم حصولهم على وثيقة تثبت مقتلهم، لأن للموت في الثقافة البشرية كلها جانباً فيزيائياً بحيث لا يستقيم تماماً من دونه. الموت يعني وجود جثة، ويعني مراسم دفن وإلقاء النظرات الأخيرة. من دون ذلك كله يصبح الموت شأناً عسير التصديق، إن لم تكن الأنفس ميالة لتكذيبه. نحن في هذا السياق نهمل جانباً من الوحشية الأسدية إذا لم نأخذ بالحسبان تساؤلات الأهالي المرغمين على الصمت، تساؤلات من نوع: هل مات حقاً أم أن هناك خطأ ما بينه وبين شخص آخر؟ هل مات تحت التعذيب أم مات مريضاً؟ كيف كان شكل جثته؟ هل قام أحد بواجب الاحترام المعتاد تجاه الموتى؟ هل دُفن كما يليق بأي ميت؟

أسئلة كتلك التي سبقت، وأخرى لا نعرفها لصعوبة أن نضع أنفسنا مكان الضحايا من أهالي المعتقلين، هي أسئلة تمنع الحزن بمعناه الإنساني البسيط إذا لم نقل النبيل، هي أسئلة تدمّر ذلك الحيز المتبقي لتقبّل الفاجعة والتصالح معها. وهي أسئلة يتركها حية عدم وجود مدفن للقتيل، فالقبر هو الإثبات المتجدد أمامنا لحقيقة أن من غادرنا غادر بلا عودة، وأن الوسيلة الوحيدة المتاحة للتواصل معه هي إلقاء الزهور بقربه، أو ربما التحدث إليه لمناجاة النفس أولاً والتحايل عليها وعلى إحساسها بالفقد. لفهم هذا المعنى، وعدم اعتباره شأناً عاطفياً شرقياً، قد يكفي التذكير بمباحثات أمريكية-كورية قديمة وشاقة لم يُكتب لها النجاح إلا مؤخراً من أجل إعادة رفات جنود أمريكيين قضوا في الحرب الكورية، لكي يرتاح مَن تبقى من أهالي أولئك الجنود بحصولهم على القبر المستحق أخيراً.

دائماً ينبغي التذكير بأن الحديث عن العدد المهول من المعتقلين يمسّ شريحة أكبر من ضحايا الدرجة الثانية أو الثالثة من الأهالي، وأننا بهذا المعنى ربما نتحدث عن ملايين الضحايا الذين تستهدفهم الوحشية الأسدية وتتفنن بتعذيبهم، وتعتبره سبيلاً لسحقهم وسحق أي تفكير بالتمرد لاحقاً. إلا أن جريمة من عيار وجود آلاف القتلى بلا جثث أو قبور قد لا تمر بالسهولة التي يظنها القتلة، ولا نستطيع التكهن بآثارها المديدة، فهي جريمة لم تحصل على هذا النحو إلا نادراً جداً، ولم يُكشف عنها إلا بعد رحيل القتلة، الأمر الذي كان يؤدي إلى دفن المعاناة مع رحيلهم.

قد يسعفنا الأدب بالتكهن حول المستقبل، ففي رواية ماركيز الأشهر "مائة عام من العزلة"، وبعد أن يرحل خوسيه أركاديو بونديا عن قريته بسبب قتله رجلاً آخر يصل إلى بقعة الأرض الخالية التي ستصبح قرية "ماكوندو"، هناك يغرس رمحه ويقول لزوجته: سنقيم هنا. تستنكر الزوجة أورسولا قائلة: كيف سنعيش في أرض ليس لنا فيها قبور؟ لعل عبارة أورسولا، التي تتضمن رمزية القبور والجذور معاً، هي مفتاح الرواية كلها، فكما نعلم كان مصير ماكوندو الخراب بعد العزلة.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها