الأربعاء 2018/07/18

آخر تحديث: 15:11 (بيروت)

حماة:الذاكرة الحية

الأربعاء 2018/07/18
حماة:الذاكرة الحية
increase حجم الخط decrease

في هذه الأيام، تُختزن حماة جديدة، في لاوعي ملايين السوريين، مؤسسةً لمرحلة من المرجح أن ينفجر فيها العنف الأهلي، بصورة مروعة، لا بدوافع سياسية أو اقتصادية، بل بدوافع وجودية وأخرى ثأرية.

فقد اختار النظام أن يُقفل واحداً من أعقد ملفات السنوات السبع الماضية، وأكثرها حساسيةً، بطريقة تزيد من القهر في نفوس الحاضنة الشعبية للثورة في سوريا. وفيما يتوافد المئات، ومستقبلاً ربما، الآلاف، إلى دوائر النفوس في مناطق مختلفة من سوريا، للكشف عن مصير أبنائهم وأقاربهم في معتقلات النظام، تتكرر تفاصيل الثمانينات القاسية، وتبعاتها القريبة جداً، حينما تم الكشف عن مصير قتلى سجن تدمر، وتوافد أهالي المعتقلين هناك، بالمئات إلى المنطقة للتحقق من مصير أبنائهم. تفاصيل ستتحول إلى أساسٍ للنظرة إلى الآخر، في لاوعي السوريين المتضررين، وهم هذه المرة، بأعداد مضاعفة عشرات المرات، وعلى كامل الجغرافيا السورية.

لاوعي حاقد وانتقامي، سيتم اختزانه. فحماة عام 1982، بوصفها مجزرة كبرى رأى فيها النظام، وسيلة لإخضاع السوريين بالضربة القاضية في ذلك الحين، تتكرر اليوم، على نطاق مضاعف. وكما تحولت مجزرة حماة 82 إلى كابوس أرّق النظام وحاضنته الشعبية، الطائفية بصورة رئيسية، لعقود أخرى لاحقة، بانتظار لحظة الانتقام والثأر، ستكون حماة الجديدة، التي تم استنساخها في كامل الجغرافيا السورية، كابوساً مضاعفاً هذه المرّة، ينتظر اللحظة المناسبة للانفجار. فأولئك الذين يختزنون القهر هذه الأيام، سيخضعون بحكم موازين القوى، لا بحكم القبول بالأمر الواقع. وموازين القوى تلك معرضة دوماً للاختلال، حتى لو بشكل ظاهري، بما يؤدي إلى انفجار بغية الثأر، ليكون مقدمة لعنف أهلي قادم في سوريا، مختلف عن تلك البداية السلمية التي انفجرت في العام 2011. وحتى لو لم يكن اختلال موازين القوى، قريباً، فالقهر المختزن هذه الأيام، سيُورث إلى الجيل القادم، كما وُرث قهر حماة 82، الذي اختزنه معظم السوريين، وليس الحمويين فقط.

كانت حماة 82، مصدر حنق وقهر دائم، لدى أبناء المتضررين منها. ومصدر خوف دائم، لدى أبناء المتسببين بها. ومصدر تأنيب للضمير، ورغبة في موقف مختلف منها، لدى أبناء أولئك الذين وقفوا على الحياد، حيالها، عام 1982. واليوم، ومع توقف دوامة العنف، أو اقترابها من خاتمتها، حيث ستتكثف أكثر فأكثر نتائج الكارثة، على المستوى الإنساني، خاصة على صعيد الحاضنة الشعبية للثورة، ستُختزن حماة الجديدة، وفق المنوال السابق.

المشاعر المختزنة هذه الأيام، والتي تؤهل لجولة جديدة من العنف الأهلي في سوريا، في المستقبل القريب، تختلف من حيث التكوين الجغرافي، والعقلية المناطقية، التي تحكمها. ففي حين كانت حماة، كمدينة، قادرة على اختزان الحنق، وكبته، والتأقلم معه، ومع المتسببين به، على مدى عقود، بحكم الطبيعة المدينية لأهلها، ستكون حماة الثانية المختزنة هذه الأيام، مجردة من تلك الخاصية. فغلبة أهل الريف على المتضررين، سترفع من منسوب الرغبة الثأرية،لدى أولئك المتضررين. وبخلاف الطبيعة التكيُّفية التي تميز أهالي المدن، الذين يميلون للخضوع، عادةً، من المستبعد أن تُؤجل تبعات حماة الثانية، هذه المرة، إلى مراحل زمنية بعيدة، بحكم الطبيعة الريفية للمتضررين. فالخضوع سيكون مؤقتاً، ولفترة قصيرة زمنياً.

على صعيد نظام الأسد، لا يوجد ما يؤشر إلى أي إدراك لما سبق، بل على العكس. لطالما كانت "حماة"، في نظر أنصار النظام، كلمة السرّ في حكم طويل الأمد، ومستقر، لسوريا خاضعة، ولسوريين مطيعين. بل لطالما طالب أنصار النظام، في بدايات الحراك الثوري، بـ "حماة" ثانية، مستغربين التعامل الموضعي لقوات النخبة من نظامهم، مع المناطق الثائرة، بخلاف تجربة الاجتثاث الكلية التي اعتُمدت في حماة 82. بطبيعة الحال، لم يستطع النظام تكرار حماة 82، كمجزرة، من حيث حجم القتلى، هذه المرة. لكنه استنسخ العشرات منها، بحجوم أصغر، على كامل الجغرافيا السورية. وولد مشاعر مماثلة لدى المتضررين والحواضن الشعبية المرتبطة بهم.

وفيما يعتقد فريق من المتخصصين في التاريخ، أن بعض الفئات الاجتماعية المهزومة في صراع مجتمعي، عادةً ما تتأقلم مع هزيمتها، وتهضم في مراحل تاريخية لاحقة، من هزمها، بطرق التكيّف الاجتماعي، يبدو أن تجربة السوريين هذه الأيام مختلفة. فحجم القهر، ووجود ملايين السوريين المرتبطين به، في الداخل، والخارج، لن يترك للتكيّف مداه الكافي. وستكون أول ثغرة متاحة لتهديد النظام، بوابة لولوج القهر من عالم المشاعر المُختزنة إلى عالم الفعل.

ولأن العقلية الثأرية لا تنحصر في أهل الأرياف المتضررين مما وقع خلال السنوات السبع الماضية، بل هي مُكرسة لدى أبناء الطائفة العلوية المتحدرين أساساً من الريف أيضاً، لذا، فإن الممارسات الانتقامية التي قام بها النظام عقب حماة 82، والتي تتكرر هذه الأيام، على نطاق واسع، ستعزز من فرص التأسيس لعنف أهلي جديد، أكثر دموية هذه المرة.

باختصار، سوريا تترقب لحظة العنف القادمة. بل ربما، دوامة من العنف الذي لا يهدأ. ولا يمكن تلافي ذلك إلا بتغيير العوامل الموضوعية المؤسسة له، وأبرزها، تركيبة النظام الحاكم، وممارساته الإقصائية بحق غالبية السوريين. وهي عوامل كانت بالأساس، سبباً لثورة 2011. وستكون المؤسس لثورات أخرى، من المستبعد هذه المرة، أن تكون بداياتها سلمية.

في هذه الأثناء، يبدو أن استخدام ملف المعتقلين الذين قُتلوا تحت التعذيب في سجون النظام، كأساس لنشاط حقوقي منظم من جانب السوريين في الخارج، وسيلة رئيسية لتحويل هذا الملف إلى أداة ضغط قانونية وأخلاقية مؤثرة، على حكومات الغرب. وإذا تم تنظيم هذا النشاط بالصورة المأمولة، قد يكون الوسيلة الأمثل لدفع قوى دولية إلى إعادة تأهيل نظام الأسد، بصورة تخفف من ممارساته الانتقامية، وتؤسس لاستيعاب الحاضنة الشعبية المتضررة، بصورة أفضل. لكن، تبقى العقلية الثأرية والإقصائية التي تشكل أساساً بنيوياً وفكرياً لدى الممسكين بزمام نظام الأسد، من أبرز العقبات التي يصعب تجاوزها. فنظام الأسد لن يعود كما كان قبل العام 2011، بل هو سيعود كما كان عقب حماة 82. والفارق بين الاثنين كبير جداً. وهنا بالتحديد، تكون المشكلة التي ستؤسس للجولة الجديدة من العنف الأهلي السوري.



 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها