الأحد 2018/06/03

آخر تحديث: 09:15 (بيروت)

"عوالم" الدراما الرمضانية!

الأحد 2018/06/03
"عوالم" الدراما الرمضانية!
increase حجم الخط decrease

لم يعد سرا أن تأسيس التلفزيون المصري في العام ١٩٦٠ كان مشروعا سياسيا يهدف إلى الدخول في كل مقهى، وبيت، ليكون "ناصر" خبز المصريين اليومي، اسمه، وسيرته، وصورته، وصوته، وأحلامه، وطموحاته، ومنجزاته، الحقيقي منها والوهمي الذي يمتلك من الحضور في وجدان المصريين ضعف ما تمتلك الحقيقة، بل إن تقدير عبد الناصر مؤسس الدولة العسكرية في مصر لدور الفن والإعلام في التأثير وصل إلى درجة تبنيه بشكل شخصي لمشروعات فنية مثل "عبد الحليم حافظ" الذي شكا منه أحد الضباط الأحرار يوما لناصر فأجابه الأخير: "غني زيه وأنا أسكنه بكرة الصبح"!


أن تكون على الشاشة، هو أن تكون في صفوف التأثير الأولى، والتأثير في المصريين ليس لعبة لتترك لاجتهادك وموهبتك ودأبك دون أن يكون ولائك واضحا ومؤكدا، بينك وبين الشاشة تقارير الأمن، وبينك وبين الاستمرار على الشاشة متابعاتهم وتزكياتهم، وبينك وبين النجومية، أو بالأحرى "السماح" بالنجومية، الاطمئنان الكامل من قبل الأجهزة، ولذلك لا معنى لصدمة في "صبحي" أو "منير" أو غيرهما، فهي أدوار يسمح بها في لحظات الاستقرار للتنفيس والإيحاء بوجود فنان حر ينتقد السلطة ويسخر منها ويتغنى بمعارضتها حتى إذا واجهت هذه السلطة معركة "وجود" جمعت كل الخيوط في أيديها وحركت قطع "الماريونيت" هذه المرة كما تشاء...


عادل إمام هو النموذج الأكثر وضوحا، موهوب، دون شك، زعيم الكوميديا في الوطن العربي، لا جدال، نجم الشباك الأول لأربعين سنة مضت، الأرقام تتحدث، لكنه أيضا ابن الدولة، ولولاها ما سُمح لموهبته بالتنفس، "إمام" الموهوبين في خدمة الدولة سخر موهبته ومن قبلها اسمه وتاريخه منذ ثورة يناير إلى الآن في التعبير عن رواية الدولة ووجهة نظرها في ما يحدث، ومرر من الرسائل عن الثورة والسلطة والشباب ما يكفي للاحتفاظ بموقعه من التأثير، إلا أنه هذا العام قرر، أو قرروا له، أن يتحول من "ممثل" للدولة، وبها، إلى "منفذ" لتعليمات "الباشا" في أجهزة الأمن الوطني، دون مواربة !


يتجاوز مسلسل عادل إمام هذا العام منطق العمل الفني، إلى النشرات الداخلية التي تدخل كل بيت عبر قالب من المفترض أنه "شغل دراما" فيما هو حقيقة لا مجازا شغل "عوالم" ليست خفية بل واضحة إلى حد البجاحة، فالتعليمات واضحة وصريحة و"الفورمات" التي ينبغي على كل مواطن الالتزام بها في قراءة الواقع وتقييمه محددة، و"الأستاذ" ينقل للناس ما أملي عليه، حتي يخيل إليك وأنت تشاهد "عوالم خفية" ومن ورائه مسلسلات أخرى على الدرب نفسه، مثل "رحيم" و"نسر الصعيد" أن الباشا ضابط الأمن الوطني يقف على رأس السيناريست، يملي، ويشارك في الكتابة، ويصحح، وينقح، ثم يتابع التصوير رفقة المخرج، ثم يشرف بنفسه على المونتاج، إلى أن يصل العمل للبيوت محملا ببركات الدولة ورعايتها، ومن كفر من بعد ما تبين له "الأمر" فله رصاص أليم!


الضابط، في دراما "عوالم" الدولة "غير الخفية"، هو فتحي عبد الوهاب، الشاب، الطيب، المبتسم، الصلب، الذي لا يخشى تهديدات مذيع قنوات الإخوان، ويبتسم أمام الشاشة معلنا أنه هو وزملائه يضحكون حين يشاهدون هذه القنوات، مخلص في عمله ، لا يتجاوز القانون أبدا، لا يهين متهما، ولا يستخدم يده، ولا لسانه، يصلي بالمتهمين إماما، يناشدهم الاعتراف لمصلحتهم، حماية لهم، فهم شباب مغرر بهم، مخدوعون، أولادنا، يترك خطيبته تلبية لنداء الواجب، يتركها في المطعم، وفي النادي، وفي البيت، وفي يوم العرس، يترك الدنيا بمن فيها ويجري نحو الواجب، لا يهنأ بالعيش ولا يحلو له، إلا في خدمة الوطن والمواطنين، لا يتدخل - أبدا - في سياسة البلد، ولا مصلحة لديه في أن ينتصر لمرشح يحكم على حساب آخر ينافس، هو فقط يتحرى على المنافسين من باب الاطمئنان على الشعب الذي سيكون أمانة في أعناقهم، يعمل وهو مصاب بطلق ناري في ذراعه ويترك المستشفى مهرولا لإنقاذ أطفال الملاجئ من أيدي الفاسدين الذين يتاجرون بهم، ليس هذا فحسب بل هو يقوم بدور تربوي مع زميله الذي يسيء استخدام سلطته، ويبلغ عنه القيادات التي لا تتأخر بدورها وتنتصر فورا لدولة القانون وتنحي العنصر الفاسد!!


الصحافي، الحر، المعارض، الجريء، صاحب القضية، المحبوب، المصدق من الناس، والذي يقوم بدوره عادل إمام شخصيا، هو في الحقيقة لا يعارض النظام، إي نعم، المعارض في بلادنا لا يعارض، إنما يعترض فقط على الأخطاء باعتبارها فعلاً استثنائياً لا يعطل مسيرة التقدم، يتعاون مع أجهزة الأمن، يتعاون مع الأمن الوطني تحديدا، صحافي معارض ويعمل مع أجهزة الأمن، يوقع بالمرشح المنافس لرئيس الجمهورية ويسجل له ويظهر مع لميس الحديدي التي يحبها، جدا، ويحب زوجها جدا جدا، ليفضح المعارضين لسيادة الرئيس، هذا هو الصحافي المعارض، أو بالأحرى نموذج المعارض كما جاء في "بامفليت" الدولة المصرية للمنتجات الزراعية وتربية الدواجن ...


أما المرشح المنافس، فهو المتآمر المدعوم من فرنسا لنشر الشذوذ الجنسي في مصر، والذي يعرض على من يعاونوه رواتب بآلاف الدولارات، والذي يملك الجرايد التي تعارض النظام، وينفق عليها من الدولارات "الفرنسية"، دولارات وفرنسية في الآن ذاته، لا تتعجب إنها إرادة السيسي، وبالأخير يتضح أن لمشروع المعارضة تمظهرات فنية تتمثل في دعمها "الفرنساوي" لأفلام السينما "القبيحة" في مواجهة السينما النظيفة التي يدعو إليها ويشجعها الصحافي المعارض الشريف هلال أو عادل إمام، راعي الأخلاق والفضيلة وحامي حمى الوطن من خطر الشواذ جنسيا!!


كل هذا القدر من المباشرة والإسفاف والالتزام الصارم بتعليمات الأجهزة في السيناريو والحوار تقطع الطريق على أي تعليق أو تقييم نقدي أو سياسي أو أخلاقي لما يحدث، مصر تنهار اقتصاديا، وتتراجع على كافة الأصعدة، والشرطة المصرية مثال صارخ للعصابة التي تحمي سلطة لا دولة، وحكاما لا محكومين، ومع ذلك "يقبل" الفنان المصري أن يتحول إلى أداة رخيصة، ممثلا ومخرجا ومنتجا وكاتبا، في أيدي "باشوات" الداخلية ليفرض حكاية الدولة على من أوقعته الظروف في ورطة  "الفرجة" على مصر وما يحدث "فيها" .. عليه العوض!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها