الثلاثاء 2018/06/26

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

اللعب في الوقت بدل الضائع

الثلاثاء 2018/06/26
increase حجم الخط decrease

حسماً لأية أوهام، أبلغ الأمريكيون رسمياً فصائل حوران قرار التخلي عنهم، وبحسب نص الرسالة الأمريكية تُرك للفصائل تقرير ما تراه مناسباً من الاستسلام، أو مواجهة الآلة الحربية الروسية التي دخلت المعركة بقوة إثر تسليم الرسالة. القرار الأردني بإغلاق الحدود أمام اللاجئين، بذريعة منع تسلل إرهابيين، أتى ليستكمل الطوق، إذ لا أمل للمقاتلين بنجاة المدنيين "ومن ضمنهم عائلاتهم" فيما لو قرروا المضي في المواجهة حتى الموت؛ الأمر الذي سيجعلهم أمام تحمل مسؤولية إضافية لوجستياً وأخلاقياً.

مع الهجمة الشرسة على درعا يعلن بشار الأسد، في تصريح لمحطة ان تي في الروسية، العزم على استرجاع السيطرة على مناطق الشمال السوري، أي تلك المناطق التي تخضع حالياً للنفوذ التركي بموجب التفاهمات الروسية-التركية. يهدد بشار باسترجاع تلك المناطق حرباً إذا لم يكن ذلك ممكناً بأسلوب "المصالحات" الذي لم يجنّب المدنيين من قبل سوى ويلات القصف، ليُنكّل بهم لاحقاً بعمليات ثأرية من الشبيحة. القول بأن وضع المناطق تحت السيطرة التركية يمنحها حماية أفضل فيه ما فيه من التجني على الواقع، بخاصة بعد الهجوم الحالي على منطقة كانت تتمتع بالحماية الأمريكية التي لا يُقارن ثقلها المعنوي والعسكري بنظيرتها التركية.

وعندما تتنبأ تقارير دولية بصيف سوري حار نخطئ بالظن إذا اعتبرنا ذلك يتعلق بجبهة حوران فقط، ونخطئ أكثر إذا لم ننتبه إلى سياق متكامل مُتفق عليه دولياً وإقليمياً منذ اجتماع فيينا خريف عام 2015. الهاجس الدولي منصبّ أساساً على التخوف من الفوضى، على الأقل هذا ظاهره، ولم يمانع الغرب تولي روسيا دور الشرطي لضبط الوضع السوري، لقاء مكاسب تراها موسكو استراتيجية بينما لا يطمع فيها. وكما نذكر قامت فكرة مناطق خفض التصعيد على أكذوبة التمييز بين إرهابيين ومعتدلين، بينما كان مسارها الواقعي إتاحة الفرصة لقوات الأسد وحلفائه للاستفراد بكل جبهة على حدة، مع عدم ممانعة موسكو أن تلعب أنقرة دور الشرطي المساعد، من خلال استخدام فصائل تنضوي تحت نفوذها وتفرغها لمحاربة الأكراد، مع التنويه بأن تحالف الميليشيات الكردية مع تنظيم الأسد لم يكن ليعفيها من بطشه عندما تحين الفرصة.

مهما كان تأويلنا للدوافع الدولية والإقليمية فإن ما جرى منذ تفاهمات فيينا يُظهر اتفاقاً، بل تصميماً، على عدم أولوية التغيير في سوريا، مع إعطاء الأولوية القصوى للافتة تتضمن عنواناً واحداً هو: الاستقرار. ومع ترك الجبهة الجنوبية أمام الوحشية الروسية والأسدية لن تبقى عملياً أية جبهة خارج الوجود العسكري المباشر لقوة خارجية، حيث لا يُتوقع أن يرتبط الانسحاب الأمريكي من الشرق بأية مطالب أو اشتراطات جدية تخص التغيير الديموقراطي، أما الوجود التركي فلم يخفِ أصحابه الهاجس الكردي الذي يحركهم، مع إبداء حكومة أردوغان حرصها في العديد من المناسبات على وحدة الأراضي السورية والتأكيد على وجودها المؤقت، وهذا "الحرص" سيُسهل ردّ "الأمانة" إلى سلطة بشار عندما تحين الفرصة.

إقليمياً يمكن ملاحظة العلاقة الجيدة التي باتت تربط موسكو بكافة القوى المعنية بالملف السوري، بما فيها القوى الحليفة لواشنطن، في مؤشر واضح على عدم اعتراض أيّ منها على المخطط الروسي. وفي الشق السياسي تتضاءل الفوارق بين مسار آستانة وجنيف، بحيث تقتصر عملياً على التنافس التركي-السعودي القادم من ملفين آخرين هما المصري والخلاف الخليجي. أما في موضوع اللاجئين فربما نكون أمام امتحان آخر، نقدّر نتيجته سلفاً، إذا استُهدفت إدلب المرشحة لتكون الجبهة القادمة، إذ يُستبعد فتح الحدود التركية أمام العدد الضخم من المدنيين هناك.

بعيداً عن شعارات التضحية والمقاومة تبدو مقاومة هذا السياق أشبه باللعب في الوقت بدل الضائع، سواءً من قبل الفصائل المعنية أو من قبل هيئات المعارضة السياسية التي تُساق لتكريس التفاهمات الدولية والإقليمية. هنا لا يفيد الندب والتحسر على الفرص الضائعة في الوقت الأصلي، تحديداً قبل التدخل العسكري الروسي المباشر، وعلى نحو أكثر دقة لا يفيد التحسر على حال الفوضى التي اتُخذت ذريعة لتفضيل استقرار الاستبداد، وعدم امتثال الفصائل لقرار أي واجهة سياسية، فضلاً عن علات وتهافت المستوى السياسي.

إننا نخطئ إذ نطالب، أو نتمنى من، أولئك الذين أهدروا أوقاتاً أفضل بأن يستدركوا اليوم ما فاتهم، وما فوّتوه على القضية السورية. ونخطئ أيضاً إذ نتوقع تغييراً يقترب من مطالب الثورة، فالتغيير الذي لا يمس بنية تنظيم الأسد، إذا حدث، سيحدث لاعتبارات تخص اللاعبين الخارجيين، وهياكل المعارضة الحالية مدعوة فقط لإسباغ شيء من الشرعية على عملية التجميل. ومن المستغرب حتى الآن أنه رغم اليأس من أداء هذه المعارضة، ورغم الطعن في تمثيلها الثورة، فهي باقية في غياب حراك منظم ينزع عنها هذه الصفة، أو على الأقل يضعها بين خيار تمثيل مطالب الثورة وخيار بقاء كل طرف منها على هوى جهته الداعمة.

في الواقع ثمة فئتان أو طريقتا تفكير تعيقان أيضاً الخروج من السبات الراهن؛ أولهما تلك التي ترى أنه لم يكن بإمكان السوريين أفضل مما كان، وأنهم لو ارتكبوا قدراً أقل بكثير من الأخطاء سيصلون إلى هذه النتيجة بفعل التواطؤ الدولي. وإذا كانت هذه الفئة تقرّ بالهزيمة فإن الفئة الأخرى لا تقرّ بها، وتبدي تمسكاً أشد بالسبل العسكرية والسياسية الحالية، مراهنةً على معجزة خارجية تأتي لتنقذ هذا الخيار في الوقت بدل الضائع. طريقة التفكير الأولى لا يُحتمل أن تؤدي إلى نتيجة سوى تعزيز المظلومية السورية، مع تضييع فرصة المراجعة النقدية الضرورية لاستئناف معركة قد تطول من أجل التغيير، بينما لا توجد معجزات وانقلابات إيجابية في المواقف الدولية لتسند الطريقة الثانية، وهي التي تغلق على نفسها أبواب الهزيمة إذ لا ترى سبيلاً آخر للتغيير غير ذلك الذي امتُحن خلال سنوات.

عندما ننطلق من القول أنه كانت هناك خيارات عسكرية وسياسية أفضل فلأن ذلك يعني عدم التثبيت عند خيارات فاشلة، ولأنه أيضاً يتجاوز العقم الفكري للمظلومية وعدميتها السياسية، مع عدم نسيان إرهاق الواقع السوري واستنزافه. لقد كنا طوال سنوات إزاء حالة شاذة لثورة، ينقسم فيها مؤيدوها بين أغلبية غير راضية عن أداء المستويين السياسي والعسكري وأقلية تمسك بزمام القرار، وكأن تلك قسمة بين من يقولون ما يشاؤون ومن يفعلون ما يشاؤون. وإذا كان نقد الثورة جزءاً من الثورة فهو لا يتحقق على أرضية القسمة تلك، وإنما يتوقف على مدى قدرة أي ثورة على تجاوز أخطائها، الأمر الذي لم تحقق فيه الثورة السورية أي نجاح. اليوم مع التواطؤ الدولي على تسليم درعا، بل سوريا بأكملها، لعل العديد من الجدالات غير المثمرة سينطوي أمام الاستحقاق الأقسى، إذ سيتوجب على من يزعم أن الثورة مستمرة أن يثبت وجودها حقاً وفعلاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها