الأربعاء 2018/06/20

آخر تحديث: 10:16 (بيروت)

هل تحذو إيران حذو كوريا؟

الأربعاء 2018/06/20
هل تحذو إيران حذو كوريا؟
increase حجم الخط decrease

جملة تصريحات موجزة وبالغة الدلالة أدلى بها رئيس كوريا الشمالية أثناء توقيعه معاهدة الاتفاق مع الولايات المتحدة في سنغافورة، تدل على أن المعاهدة مع الأمريكيين لم تكن مجرد بحث في لوجستيات حربية أو تقنيات عسكرية، بل تعبر عن تحول جذري في مسار النظام الكوري الشمالي لا يقتصر على تغير في أداء النظام بل تغير في وجهة هذا النظام لجهة رؤاه الاستراتيجية وسياساته الدولية وبنية انتظامه الداخلي.

قال رئيس كوريا الشمالية أثناء توقيعه الاتفاق مع رئيس الولايات المتحدة: " علينا تجاوز صعوبات الماضي... وسيرى العالم تغيراً جوهرياً".  هي عبارة تحمل معها تفكيكاً شاملاً لقواعد الاشتباك مع المنظومة الغربية، وتغيراً جذرياً في بناء الكبرياء الوطني ومعنى إثبات الذات الوطنية وتفوقها، ونية صريحة بالخروج من دائرة التمرد والتخريب على نظام العولمة الجديد الذي بدأ يتشكل منذ سقوط الإتحاد السوفييتي، إلى النية بدخوله والتقيد بقواعده والانسلاك في بنيته الانتاجية وسوقه التنافسي.  أي الخروج من السلب بإثبات القدرة على خلخلة النظام القائم وزعزعته بصواريخ نووية مدمرة، وإثبات الذات الوطنية بالإيجاب، أي القدرة على بناء فاعلية وطنية تقوم على الإبداع والابتكار والإنتاج الصناعي الذكي القادر على التنافس في الأسواق.

الاتفاق الذي أبرم بين ترامب وكيم جون لم يكن خضوعاً أو  استجابة مذلة لكوريا الشمالية بسبب الحصار الأمريكي القاسي عليها، وفق ما تصوره الدبلوماسية الأمريكية. فكوريا الشمالية اختبرت كل أنواع الحصار الخارجي عليها، وعرفت كيف تتكيف مع أنواع الضغوط الخارجية كافة، وبرهنت على قدرة نظامها على الصمود وعلى تماسك مجتمعي وإباء وطني ضد أي تهديد خارجي.  بل كان هذا الإتفاق خطوة في مسار استراتيجي وبنيوي بعيد المدى ستنتهجه كوريا الشمالية يضمن لها الخروج من عزلتها ويفتح لها الباب لتحقيق تفوق تقني وإنتاجي منافس يوفر لها رفاهاً يناظر رفاه شقيقتها كوريا الجنوبية.

تعمدت كوريا الشمالية الوصول في قدراتها النووية إلى أقصى مدى ممكن،  من خلال إنتاج واختبار صواريخ نووية عابرة للقارات، لغرض إثبات إمكاناتها التقنية العالية، وإظهار قدراتها الذاتية على تحقيق أهدافها مهما كانت التحديات الخارجية. أي تعمدت بناء اقتدار سياسي وكبرياء وطني واثق يلتف حول نظامها، رغم قسوته ووحشيته، في الظروف الصعبة، يمكنها الشروع في التفاوض مع العدو الأمريكي من موقع القوة والقدرة الفعلية، ترغم الأمريكي على التعامل مع هذه الدولة "المارقة" بجدية كبيرة وتجعله يحذر من استعراض القوة أو ممارستها معها أو التهديد باستعمالها، لما في ذلك من عواقب موجعة ومدمرة على الأمريكي نفسه وحلفائه الأسيويين  (كوريا الجنوبية واليابان).

أرادت كوريا الشمالية إنهاء تمردها وعصيانها والتخلي عن تسلحها النووي من موقع القوي والمقتدر، كي لا تضطر إلى تقديم تنازلات وطنية أو سيادية، وهو أمر يسهل عليها الدخول الآمن والمريح في نظام الإنتاج المعولم ونظام السوق التنافسي، لأنها دخلته باختيارها وإرادتها وإجماع وطني كاسح.  وهو اختيار لم يكن هيناً أو سهلاً، بل تطلب جرأة وشجاعة من القيادة الكورية، لأنه لم يكن مجرد قرار سياسي روتيني، بل يمثل تحولاً مصيرياً سينعكس ويتجلى في مستقبل الدولة ونمط حياة المجتمع الكوري، يخرج كوريا الشمالية من أوهام الأيديولوجيا الشيوعية وزيف ادعاءاتها، وعبودية تأليه مؤسسي نظامها الشيوعي لعقود طويلة.

قرار القيادة الكورية الشمالية لم يكن استباقاً للأحداث، بل كان نتيجة وصول مسار إثبات الذات بالتسلح النووي إلى ذروته.  حيث لم يعد وراء التسلح النووي شيء لتحققه سوى تكديس المزيد من الصواريخ الذي يقابله مزيد من العزلة والحصار الخانق والموت الاقتصادي والتآكل في قدرة مؤسسات الدولة على القيام بمهامها وتنفيذ التوقعات المنتظرة منها في الداخل.  أي لم يكن وراء التسلح النووي سوى الموت البطيء للمجتمع والانهيار السريع للدولة والنظام. وهي مآلات فرضت سرعة مبادرة من النظام الكوري الشمالي، ورغبة جدية وواضحة بإبرام اتفاق مع الولايات المتحدة، خاصة بعد ظهور تململ صيني من تجاوز كوريا الشمالية لكثير من الخطوط الحمراء التي يتسبب بزعزعة أمن واستقرار دول شرق آسيا.

لم تدخل كوريا الشمالية المفاوضات مع الولايات المتحدة طائعة مستسلمة مثلما يصور الأمريكيون، ولم تدخل لتحفظ مكتسباتها الثورية أو النووية مثلما يصور محللو محور الممانعة، ولم تفاوض لتناور وتكسب الوقت مثلما يفعل الإيرانيون، إنما دخلت هذه المرة بقرار جريء لتعبر عن انتقال جدي إلى مستوى جديد من العلاقات الدولية ونمط مختلف من الانتظام الداخلي بتحويل بنية الإنتاج النووي إلى بنية صناعية منافسة لجيرانها.               

 لم يكن الاتفاق الكوري الأمريكي مجرد مقايضة بين رفع الحصار الأمريكي والتخلي عن التسلح النووي الكوري،  بل هو مؤشر قوي على بدايات تحول كوريا الشمالية إلى انتظام جديد وبنية إنتاجية مختلفة وتموضع دولي مختلف، لا يتعلق بتوازن الرعب مع الأمريكيين، أو بمقايضة بين التخلي عن السلاح النووي مقابل رفع الحصار.  بل هو تحول يحرر كوريا الشمالية من سطوة الماضي مثلما عبر رئيسها، ويخرجها من افتخار وطني وهمي يقوم على السلب والتحدي واللاإنتاجية وتكديس ترسانة تدمير غير قابلة للتبادل السلعي ولا تحقق لها نموا اقتصادياً، إلى فضاء الإبتكار والإنتاج والتنافس الخلاق الذي يشرك جميع أفراد المجتمع في دورته وشبكته.

هذا كله لا يعني أن كوريا الشمالية ستخلع ثوب استبدادها، وأن الحياة الديمقراطية ستشق طريقها بسهولة في داخلها.  فالديمقراطية لا تتم بقرار سياسي بل بمسار جدلي داخلي لم تتحصل مقوماته الذاتية بعد. إنما يعني أن تفكيك الترسانة النووية سيضيق على الدولة خياراتها ويرغمها على تحويل قدراتها التقنية إلى طاقة إنتاجية ستسهم في المدى البعيد في خلق حيوية مجتمعية ورفاهية اقتصادية تجفف منابع الاستبداد وتخفف من قبضته الحديدية مثلما حصل في الصين.

ما فعلته قيادة كوريا الشمالية جاء نتيجة مراجعة جذرية جعلها تدرك انسدادات مسارها وتحسم قرارها بضرورة التحول قبل وقوع الكارثة. هي مراجعة حبذا لو تستفيد القيادة الإيرانية من اختباراتها وجرأتها في معالجة ملفها النووي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها