الثلاثاء 2018/06/12

آخر تحديث: 08:41 (بيروت)

إثيوبيا ومصر:ضلالات التعالي

الثلاثاء 2018/06/12
إثيوبيا ومصر:ضلالات التعالي
"أبي أحمد"، يضعنا أمام جيل جديد من الحكام الأفارقة
increase حجم الخط decrease
قبل خمس سنوات، كان التلفزيون المصري ينقل على الهواء مباشرة، اجتماعاً "سريا"، لرئيس الجمهورية، حينها، محمد مرسي، مع ممثلين عن الأحزاب السياسية المصرية، لمناقشة قضية سد النهضة الاثيوبي. كان الجمهور يشاهد، لحظة بلحظة، على الشاشة، مجدي حسين، رئيس حزب العمل، وهو يطالب الحضور، بالقسم على عدم "تسريب كلمة للإعلام" عن مجريات الاجتماع. كان المشهد عبثياً إلى أقصى درجة. فحسين بعدما اكتشف أن اللقاء يبث على الهواء، ذهب إلى أن إرسال لاعب الأهلي أبو تريكة إلى أثيوبيا لهو كفيل بحل الأزمة. كان رئيس حزب الغد حينها، أيمن نور، قد اقترح قبلها نشر الشائعات، "لبث الخوف في نفوس الأثيوبيين"، أما محمد عصمت السادات فقد اقترح على الرئيس زعزعة استقرار أثيوبيا: "كله حضرتك زي ما إنت عارف ممكن يتظبط، وكمان فيه قبائل ممكن المخابرات تشتغل عليها".


لم يكن الفاضح، إذاعة الاجتماع "السري" على الهواء، دون علم المشاركين فيه، بل الصورة التي تحملها النخب الحزبية في مصر عن طرق إدارة الملفات الخارجية، والاحتقار الذي تكنّه لافريقيا و"قبائلها" التي يمكن "تظبيطها" أو بث الخوف فيها أو يمكن مراضاتها بزيارة من "أبو تريكة" أو عادل أمام.

يوم الأحد الماضي، كان رئيس الوزراء الاثيوبي، أبي أحمد، في مؤتمر صحافي، في القاهرة، واقفا إلى جانب الرئيس السيسي، الذي طلب منه أن يقسم بالعربية: "والله والله... لن نقوم بأي ضرر... بالمياه في مصر". وبالفعل استجاب أحمد وكرر القسم وراءه أمام الشاشات. نال المشهد ما يكفيه من السخرية. لكن تصورات السيسي عن العلاقات الدولية وحل الأزمات الإقليمية عبر الأقسام المغلظة، ليست خاطئة تماماً. فالسلطات المصرية تبدو اليوم، واعية بالواقع، وبإمكانياتها المحدودة في ملف النيل، وإنه لا سبيل أمامها سوى التفاوض، والاعتماد على النوايا الطيبة لجيرانها الجنوبيين من دول المنبع، أو محاولة الضغط عبر الوسائل الدبلوماسية على أقصى تقدير.

بين هذين المشهدين، حدث الكثير في مصر وأثيوبيا. تقدم العمل في بناء سد النهضة كما كان مخططاً له، ولم يتحقق أي تقدم يذكر في ملف المفاوضات حوله. في مصر، انقلاب أطاح بمرسى الذي ترأس الاجتماع الأول، فيما انتهى كثيرون من المتحدثين فيه أما للسجن، أو المنفى أو اعتزال السياسة. في أثيوبيا، ضربت البلاد موجة من الاحتجاجات السياسية العنيفة، والاضطرابات الأثنية. كانت هذه هي "القبائل" في خيال المصريين، وذهب الأكثر تحمساً لنظام السيسي، لمدح المخابرات المصرية على دورها في إشعال "ثورة الأورومو" وتضبيط القبائل. ذهب مرسي وجاء السيسي، لكن أوهام التعالي وضلالاتها باقية. حصدت الاضطرابات الأثيوبية التي استمرت لثلاث سنوات، ألف قتيل في طريقها، ولم يوقفها إعلان حالة الطوارئ وعمليات الاعتقال الجماعية للمعارضين السياسيين. في مصر، سقط أضعاف هذا العدد من القتلى، في المدة نفسها، بين فض الاعتصامات الدموية، والاقتتال في سيناء، والهجمات الإرهابية بطول البلاد وعرضها، وفرضت الطوارئ أيضا.
لكن ثاني أكبر بلد في أفريقيا من حيث عدد السكان، وأسرعها من حيث معدلات النمو الاقتصادي في الأعوام االقليلة الماضية، أخذت الأحداث فيه تحولاً درامياً بداية العام. فرئيس الوزراء السابق، هيلى ماريام ديسالين، قدم استقالته في فبراير الماضي، على أثر الاحتجاجات المتواصلة. ودفع التحالف الحاكم في أديس أبابا، في أبريل الماضي، بأبي أحمد، لرئاسة الوزراء، في البلد الذي يشكل فيه المسلمون أقلية. لكن الضابط السابق، والحاصل على الدكتوراه في دراسات السلام والأمن، لم تكن كل مؤهلاته هو تمثيله لأثنية الأورومو، التي ينتمي لها القسم الأكبر من السكان، والتي تقف وراء الاحتجاجات المتجددة. فأبي أحمد، رئيس الحكومة الأصغر في أفريقيا، (42 عاما)، قد بدأ ولايته برفع حالة الطوارئ، والأفراج عن المعتقلين السياسيين، ودعوه المنفيين للعودة، والخطو نحو المصالحة السياسية في البلاد. وفي أقل من شهرين، من ولايته، قام أبي أحمد بحسم صراع طويل مع الجارة إريتريا، وبعد رحلة مكوكية الى السعودية عاد ليعلن عن إقناعه للسلطات السعودية بالأفراج عن الملياردير السعودي الأثيوبي الاصل، محمود العمودي، قريبا، بالإضافة للإفراج عن ألف أثيوبي مدان في قضايا مختلفة في البلاد. في مصر أيضا، الذي طمأنها وأقسم على عدم الضرر بحصتها من مياه النيل، لم يغادر أبي أحمد القاهرة، إلا بعد حصوله على وعد بالأفراج عن مواطنيه المحتجزين في البلاد.


والمزيد عن التعديلات المزمعة في الطريق، بدءا من تعديل الدستور لوضع حد أقصى لولاية رئيس الوزراء، لا تتجاوز الفترتين، وصولا إلى فتح البلاد لجميع الأفارقة دون تأشيرة دخول. بالطبع ستحتاج الأمور في بلد عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة، ومتخمة بتاريخ طويل من الديكتاتورية، والفقر، لأكثر من مجرد رئيس حكومة شاب وحسن النية. وخاصة وأن تغييرا جذريا في البنية السياسية في البلاد لا يبدو متوقعا قريبا، فالتحالف الحاكم لازال في السلطة كما هو، منذ التسعينات، ورفع الطوارئ والأفراج عن المعتقلين لا يعني بالضرورة قبولا بمشاركة المعارضة في الحكم أو تداولا سلميا للسلطة. أما على المستوى الاقتصادي، فإن إعلان أبي أحمد عن عزمه تحرير الاقتصاد وأتاحه دور أكبر للقطاع الخاص، استقبله البعض بقليل من الحماس، في بلد ربما لايزال في حاجة لاستثمارات حكومية هائلة في البنية التحتية، أكثر من تشجيع رأس المال الخاص.

لكن وبالرغم من كل تلك التحفظات، فإن مشهد اللقاء الصحافي في القاهرة، يستحق أكثر من السخرية من قسم "أبي أحمد"، فهو يضعنا أمام جيل جديد من الحكام الأفارقة، وخطوات بطيئة ولكن ثابتة للعمليات الديمقراطية، والمصالحة الوطنية، والتعايش في أفريقيا. تكشف مفارقة المشهد بين الرئيس المصري، الذي بدأ فترته الثانية في الحكم بحملة اعتقالات، وبين رئيس الحكومة الإصلاحي، الذي لازالت بلاده مرتبطة في أذهان المصريين بالمجاعة، عن الزمن الذي تعدى خيال المصريين وتصوراتهم عن القارة التي ينتمون إليها، وعن الماضي الذي تبدو بلادهم حبيسة فيه، والمستقبل الذي يظل ملتبسا عليهم وسط أوهام التعالي وضلالات التفوق على جيرانهم.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها