السبت 2018/06/02

آخر تحديث: 00:08 (بيروت)

السوريون الويسترن

السبت 2018/06/02
السوريون الويسترن
increase حجم الخط decrease

كنت أعدد خصائل البطل في الأفلام الأمريكية، فذكرت أن الكاوبوي الويسترن، الذي يركب الجواد أو السيارة، صامتٌ لو تكلما.. لفظ النار والدما. حاسم، حازم، كئيب، رهيب، لا شيء يسرّه، ولا مخلوق يضّره، لا يضحك، ولا يبتسم، كأنه حادٌ على فقيد. وحيد، ربما مصاب بالتوحد الاختياري والفيدرالية الفردية، ليس له صديق سوى فرسه ومسدسه، تعديله القبعة على رأسه، ينذر بخطر ماحق، وداهية ستبيض من المقادم، لديه أحياناً آلة غير المسدس والناعورة الصغيرة خلف كعب نعله الجلدي، كآلة هارمونيكا الموسيقية، في فيلم "حدث ذات مرة في الغرب"، فصارت كنية البطل الذي مثله تشارلز برونسون في الفلم: هارموني.

 حصورٌ، لا يحفل بالنساء، يدافع عن العاهرات وحقهن في العمل، على عكس البطل العربي القديم، الذي يدافع عن الحرائر. أما البطل العربي المعاصر في خيال الروايات وأرض الواقع، فلا يفكر سوى في متعة النساء. هو نبي الحضارة الأمريكية، يقتحم غرفة ليلاحق مطلوباً، مقابل جائزة مالية مجزية، فيجد امرأة عارية مثل السيف، تُباغَت، فتصرخ، فلا ينظر إليها، وكأنه إمام من أئمة العفاف العظام. وعندما تقع في غرامه وتلاحقه، ويضطر إلى النوم معها مكرهاً، أو برغبة غامضة، أو تحصيل حاصل، فهي التي تطارحه الغرام، تقبّله، تمسحه لثماً، كما يمسح القديس بالزيت المقدس، من غير أن تهتز له شعرة، وهو ساهم في الملكوت، هائم في برارٍ بعيدة. وقد يخرج مسدسه، ويطلق النار على ذبابة أخطأت العنوان، أو شبح ضال وراء الباب، تاركاً الحبيبة المذعورة مذهولة في مهب العري، تفُّر من السرير غير مبالية بشيء. ثم يضع مسدسه تحت رأسه وينام ملء عينيه عن شواردها.

قال أبو الخير، وهو كاتب قصص وشاعر، وفنان تشكيلي، يرسم أحياناً، وينحت أخرى، لكن ليس له هوى في الفن السابع: أهل بلدتي كلهم ويسترن على هذه الحال.

قلت: على رسلك.

قال: جدي ويسترن، وأعمامي وأخوالي، كلهم ويسترن. كانوا مسلحين بالمسدسات يوماً، ثم اكتفوا بعد أن روضتهم الدولة الموقرة بالخناجر اليمنية، ثم عُزلوا عنها بقانون الطوارئ. مرة عاد جدّي من عمله في التجارة، وكان يسافر إلى الجبل، ويعود، فاستقبلته عروسه، وسألت ابن عمها، أي جدي، عن أخبار التجارة، ففك حزامه، وحزامه وشاح طويل، يمتد من مثل عشق نزار قباني وكاظم الساهر من بغداد إلى الصين، وفي أثناء فك اللفة الثالثة، قال لها بهدوء صارم، وهو يضع خنجره المرصّع بالخرز على طرف النافذة، وفي حده الحد بين الجد واللعب، ومن غير أن ينظر إليها: هل نقص عليك شيء يا ابنة الحلال؟

قالت ابنة الحلال، التي كانت قد اشتاقت إلى منادمة زوجها، وهي تستمع إلى خنجر صوته المرصع بالوعيد: لا..

ففهمتْ الدرس، وصمتتْ حتى ماتتْ قهراً.

فوافقتُ أبا الخير، وتذكرتُ أني زرت، صديقي الكاتب الساخر، الزنجي الأشقر، وهو لقب غلبه لغلظةٍ في شفتيه، وحمرةٍ في خديه، فوجدت عنده رجلاً يدخن بلا هوادة، لم يكن يعمل شيئاً سوى التدخين، كأنه بركان خامد، أو حريق صامد، عرّفني به: ابن عمي فلان، وذكر لي اسمه، ثم عرّفه بي بهدوء الويسترن: صاحبي فلان، قاص. تابع: قاتل وطلب الجوار، وهو متوارٍ عندي. ووجدت صديقي ينصرف إليَّ، ويسألني عن آخر الكتابات وشؤون الثقافة والأدب، والرجل لا يزال يعزف مثل هارموني على ناي سيجارته الخالدة، فتصدر ألحان الرماد والسواد. أحضر الزنجي الأشقر بعض الشعيبيات، وطلب مني أن أسند جوعي بها، الى حين موعد العشاء الأخير، فأكلت واحدة، فشبعت. وظل الويسترن، يعزف على نايه ألحان الخواتيم، وحان موعد النوم، فأستأذن الزنجي الأشقر ملبياً أوامر سلطان النوم، فنمنا، أنا وهارموني في غرفة المكتبة. استأذنتُ التنّين البشري، هامساً، كأشد ما يكون الهمس، خوفاً من إيقاظ ملائكة العذاب، في إطفاء السراج الكهربائي، فلم يردّ، فأطفأت المصباح، وظلت جمرة نايه تلمع في الدجى، حتى ضرب الله على أذني، فغشيني ما يغشى اليائس، فنمت.

تابع أبو الخير: كان عماي رجب، وعبد القادر، متخاصمين، استعاذ  الأصغر رجب من الشيطان، وداس على كبريائه، ونوى الاعتذار من أخيه عبد القادر، فالحق دائماً في تقاليدنا العائلية، ليس مع صاحب الحق، وإنما مع الأكبر سناً، فأمسك بيد ابنته زهرة، يتشفع  بطفولتها والرحم، حتى يجد سبيلاً إلى قلب أخيه الجافي في أحراش الشدة الوعرة، وقصده في حقله، كأنه داخل في مباهلة، كان عبد القادر يزرع شجرة زيتون، فبلغه رجب، وسلّم عليه، لكن عبد القادر استمر في الحفر، كأنه أصم، ولم يرفع رأسه، فشعر عمّي رجب بالخزي، حتى إنه نسي من العار، ابنته في حقل أخيه، فعاد من دونها، ثم تذكرها، فعاد إلى حقل عبد القادر، فلم يجدها، بحث عنها، فلم يعثر لها على أثر، الطفلة تبخرت، ثم انتبه إلى مقدار اصبع من ثوبها الملّون مثل زهرة في صحراء، فوجد أن أخاه، الذي كان يحفر لأصل الزيتونة حفرة الغراس، قد طمرها بالتراب، والبنت من شدة رعبها، لم تنبس ببنت شفة، كان قد وأدها.

قلت: قرأت شيئاً من هذه الغلظة في مذكرات بشير العظمة، الذي قال في كتاب جيل الهزيمة، إنّه مات له شقيقان من غير أن يتذكر عنهما شيئاً، فالآباء كانوا ينجبون وينسون. في عالم الحيوان، الحال أفضل، يهجم الوحش المفترس على غزالة، فيخطف خشفها، فتحزن لحظة أطول من مدة حزن آبائنا الويسترن على أولادهم.

ثم تذكرنا القتل تحت التعذيب في السجون السورية، وسألني أبو الخير: برأيك حافظ الأسد ويسترن؟

قلت له: هذا ويسترن يونيون.

وأجمعنا أن حافظ الأسد كان من هؤلاء، يقتل من غير أنّ يرف له جفن، ويذكّر بأبطال أفلام "احفر القبر بسرعة"، وإذا أردت أن تعيش فاقتل". لكن من غير أن تكون لهم تقاليدهم. ويدافع أيضاً عن العاهرات بطرق معاصرة. وذكرت له أمثلة على مسلسلات يعرضها تلفزيونه التقدمي، تبشر بعصر الدعارة. أمس رأيت نقداً ساخراً لنور خانم، تعرض فيه مسلسلات سورية حرائرها، كلهن حبالى بالحرام، والأب آخر من يعلم. الحَبَل لايزال وطنياً، سنرى في مسلسلات السنة القادمة أصهاراً روس وفرس، ولا أعرف متى سنقلع هذا الضرس.

تابع ذكريات الويسترن فقال: إن والدي استأجر بيتاً بجوار بيت جدّي، حسب رغبة أمي، التي أرادت أن تعيش قرب سكن أهلها، وذهبت أمي تزور بيت أبيها، وكانت عروساً، وعندما كان جدّي يدخل، ينهض الأخوال الستة مثل التلاميذ، فيشير الجدّ بيده، فيجلسون، دخل جدّي تسبقه هيبته، وحالما رأته أمي، بادرت جرياً إلى تقبيل يده، لكنه في اليوم الثاني سحب يده، فذعرت أمي وجفلت، وقال لها: أليس لك بيت؟ وقال لها جملة صارت مقطعاً في أغنية الحاصودة: عودي ع ديارك عودي.

عندها أدركت أنها متزوجة، ولو تعلم، كم بكت أميّ على جدّي يوم مات.

أما جدتي، التي أخطأت يوماً، وردّتْ على جدي من المطبخ، وكانت المراسيم أن تجري وتردّ عليه بين يديه، فأمسك بها، وقادها إلى الكراج، وكانت من حمص، وقال لها: عودي ع ديارك عودي، وأعطى أجرة الرحلة للسائق، وعاد إلى البيت.

ومن شدة حزنها، نسيتْ أن تنزل في حمص، فساقها الباص إلى دمشق، فنزلتْ وهي تبكي، فهي لا تعرف أحداً هناك، وهي في الأصل لا تعرف أحداً سوى زوجها وأهلها، ومصادفة رآها أحد أبناء خالتي، وميّزها من ثيابها، فالخراطة خراطة بلدنا، فسألها، فعرفها، فأعادها، ولولا تلك المصادفة، لضاعتْ جدتي، كما ضاع شادي في ثلوج فيروز وعسكرها.

كنت أريد ان أذكر له شيئاً عن قسوة عمي، وأخوالي أيضاً، فالأكراد ويسترن، وما يزالون، لكن مذهبهم فيه ظرف غير مقصود، وفكاهة قدرية، وخطيئة أصلية، وطيشهم سلاح تدمير شامل، يقتل أكثر من السارين، ثم قلت: إن الحضارة المعاصرة دجّنتْ رجالنا، وجعلتهم يبكون مثل النساء على مهند وكساندرا.. ومضى زمن وجاء آخر، يسأل المواطن الصالح زميله في الباص ملهوفاً، عن مصير أبي عصام بطل مسلسل باب الحارة، وكأنه أبو محجن الثقفي في الأسر.

عاد وسألني: وبشار الأسد؟

القتلة أيام الويسترن السوري مثل حرشو البرازي، الذي قتل سامي الحناوي، ورزوق النصر، الذي قتل عبد الله الشركس، كان لهم تقاليد الويسترن السوري، كأن يقول القاتل لخصمه، وهو يشهر مسدسه: أنا فلان، انظر في عيني، ولا تقل قُتلت  غدراً، ويكون القتل فيه غدر طبعاً، فالويسترن الحقيقي حسب خيال السينما الأمريكية، وهو نقيض الحقيقة طبعاً، يبارز خصمه كالفرسان، والناجي هو الأسرع والأمهر.

قلت: بشار الأسد، لا ايسترن ولا ويسترن، أولاً: الويسترن لا يثرثر مثل بشار الأسد، الويسترن شبه أخرس. ثانياً: بشار لا يؤمن بالمسدس، ويقتل شعبه بأسلحة تدمير شامل، مثل الكيماوي والبراميل، مدرسته جديدة في القتل، ومختلفة عن مدرسة هتلر ونيرون، وستدرّس طويلاً، ليس في المعاهد الحربية والأكاديمية، وإنما في مسارح اللامعقول، للفهم والفقه والاستيعاب.

سألني أبو الخير: أنمتَ بسهولة؟

قلت: أفقتُ على حديد ماسورة المسدس في جبيني، كان مسدساً بسبطانة بندقية، طويلة، تمتد مثل عشق نزار قباني من بغداد إلى الصين، طلبتُ الرحمة من هارموني، لكنه أطلق النار على الجدار، فقفزت هلعاً. كنت أحلم، تلفتُّ حولي، كان الحاج تشارلز برونسون لا يزال يدخن، ورأيت جمرة لفافته تتوهج في النافذة، السماء كانت صافية، ونجوم مجموعة الدب الأكبر ازدادت نجمة ثامنة.





increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب