الثلاثاء 2018/05/29

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

طائفة ريّال مدريد!

الثلاثاء 2018/05/29
طائفة ريّال مدريد!
increase حجم الخط decrease

هذا العنوان مخادع، لأن النص الذي يليه لن يتطرق إلى النادي الملكي أو إلى الرياضة عموماً. وكما نعلم لا يندر أن يستخدم الكتّاب عناوين مخادعة للإيقاع بالقارئ، وهذا أيضاً خارج ما سيتطرق إليه النص. مع ذلك يبيح لنا المجاز التحدث عن طائفة ريال مدريد التي قويت عصبيتها لمناسبة نهائي أبطال أوروبا، وفي المقابل منها ما يمكن تسميتها طائفة اللاعب محمد صلاح الذي كسب لناديه عصبية لم يكن يحظى بها من قبل في الأوساط العربية.

أثناء الجدل بين الطائفتين المذكورتين بسبب إصابة محمد صلاح، وقد شارك فيه سوريون مهتمون على وسائل التواصل الاجتماعي، كان هناك جدل أكثر حدّة على خلفية مشاجرة بين أكراد وعرب في مخيم للاجئين في اليونان، وقبل أن تتضح خفايا الشجار الحاد كانت جوقة العنصرية بين الطرفين قد باشرت عملها، ليرتفع منسوبها سريعاً فينال الطرفان نصيبهما من الشتائم، ثم ليبدو الشقاق كأنه على خلفية دينية، وليساهم البعض أيضاً في النيل من العرب المشاركين في ذلك الفعل الشائن على خلفية انتمائهم المناطقي ما يصِم أهل منطقة بأكملها.

النقاش الطائفي كان بدوره في انتظار هذه المشاجرة، ومع أن طرفاها ليسوا من السُنّة والعلويين إلا أن مشاركة من ينحدرون من هاتين الطائفتين في النقاش كان لا بد أن تستدعي الحساسية المتبادلة بينهما، فيصبح أي اختلاف في وجهات النظر مبنياً على الشقاق الطائفي الأصل. ثم لا بد لما بات يُعرف بتحالف الأقليات أن يساهم في النقاش، سواء بشكل مضمر أو معلن، وهكذا تصبح الجريمة تمثيلاً واسعاً للمسألة السورية برمتها، ويصبح الفعل الجنائي الذي حدث في اليونان فعلاً سياسياً صرفاً انتقل قسراً من سوريا إلى البر اليوناني.

لو افترضنا وقوع حدث آخر من نوع قيام لاجئ سوري بقتل زوجته وأطفاله، بدافع اليأس ليس إلا، فمن المؤكد أن هذا الحدث لن يحظى بجدل واسع، وسيكون ثمة ما يشبه اتفاقاً عاماً على هول الجريمة وبؤسها. لكن لو افترضنا في الحادثة ذاتها أن الزوجين ينحدران من منبتين إثنيين مختلفين، أو منبتين طائفيين مختلفين، فثمة فرصة أكيدة لئلا يأخذ الطابع المأساوي لها الحيز الأوسع من الجدال، فلدينا عدد ضخم ممن يتربصون في انتظار هذه الفرصة، وممن سيجدون التفسير في ذلك الاختلاف الإثني أو الطائفي بين الزوجين، بينما ستغيب عن الاهتمام أسباب اللجوء وظروفه المأساوية والتعاطف مع الضحايا بوصفهم ضحايا.

خلال فترة ساد الظن بأن حديث الطائفية السوري يمتلك "إيروتيكية" خاصة، لأنه كان محظوراً قبل الثورة بدواعي القمع العام الذي يصبح ذاتياً أيضاً. ضمن هذا التصور كان مفهوماً تعويض ذلك الكبت القديم، ومما لا شك فيه أن دعاية الأسد الطائفية منذ مستهل الثورة مع استجابة كبيرة لها قد ساهمتا في انتعاش التفسير الطائفي للصراع، أو اعتباره التفسير الوحيد من قبل البعض. ومع الدخول العلني للميليشيات الشيعية في الحرب على السوريين، بالشعارات الطائفية المعروفة، دخل أيضاً الصراع الشيعي-السني ليضيف مركّباً طائفياً لم يكن موجوداً لدى السوريين بسبب ندرة الوجود الشيعي في سوريا.

وفق أحسن النوايا كان منتظَراً أن يفضي النقاش السابق إلى نبش ما يُتداول في العتم وتعريضه للشمس والهواء، وأن يؤدي هذا النبش دورين أساسين؛ التخلص من حالة الكبت السابقة، وبناء معرفة أفضل بالآخر وبالذات. على الصعيد السياسي كان منتظَراً من فضح الجانب الطائفي لتنظيم الأسد التدليلُ على فداحة الاستثمار الطائفي في السياسة، والثمن الذي دفعه السوريون باهظ بما يكفي لمن يريد رؤيته، ولم يكن مأمولاً بالطبع استغلال الجانب الطائفي لتنظيم الأسد من أجل تعويم طائفية مقابلة، ولقد شاهدنا ثمن ذلك أيضاً. وضع الأكراد والعرب لم يكن أحسن حالاً خلال الفترة نفسها، إذ شهدنا تبادلاً لأماكن السيطرة هنا وهناك مع أفعال ثأرية من الطرفين، وعلى الأخص مع مؤازرة من جمهور الطرفين.

اختصار الأمر بالآثار السلبية له لا يكفي، وتبريرات من نوع أن هذه الفورة لا بد أن يرافقها انتعاش العصبيات هي تبريرات تتلطى خلف الواقعية بزعم العجز حيال ما يُصوّر على أنه حركة تاريخ حتمية. عادة تترافق التبريرات مع إلقاء اللوم على فئات هي "الأكثر جهلاً"، بحيث يسهل لصق التطرف بالجهل فقط من دون ملاحظة أمثلة متزايدة على من يُفترض أن يكونوا "أكثر معرفة". والواقع أن حديث الطائفية الأوسع انتشاراً، لا الشتائم الطائفية المتداولة، يصدر غالباً "على نحو مباشر أو باطني" عن فئات متعلمة أو مثقفة، وكذلك هو حال التعصب القومي، لذا تجوز مساءلة هذه الشريحة بحكم مساهمتها، وبحكم أنها تشارك في صناعة الواقع وليست في وارد الانصياع له فحسب.

أهم نقد يمكن توجيهه للنقاش الطائفي المديد أنه في معظمه لا يقدّم معرفة حقيقية، وأنه يتوقف عند الظواهر ذاتها على نفس الدرجة من السطحية. وأهم تجليات هذا العجز الفكري أن يتحول التفسير الطائفي إلى إجابة جامعة مانعة، وهذا إذا كان يصحّ في بعض الحالات أو عند استنفاذ بقية الفرضيات فإنه لا يمتلك الدرجة ذاتها من الصحة دائماً، أو لا يحظى بالتأثير ذاته دائماً. إن افتراض الطائفية "أو القومية" هوية للآخرين تفسّر كافة أنماط سلوكهم يُفقدنا المعرفة اللازمة بهم، ويُفقدنا ملكة التفكير اللازمة لنا، فاختزال الآخر طوال الوقت يعني القفز مباشرة إلى النتيجة المعروفة لدينا، وفي أقصى الحالات تقصّي ما يثبت معرفتنا الناجزة مسبقاً. بالطبع يبقى من الضروري عدم ممارسة التقية الفكرية إزاء مسألة لها حضورها السياسي أو الاجتماعي، إلا أن المواجهة النقدية الكاشفة "مهما كانت صادمة" أمر يختلف عن الركون إلى الإجابات السهلة التنميطية، مع الإشارة إلى أن ما كان يبدو نقدياً من قبل قد استهلك دوره، وتكراره اليوم لا يدلل على حقائق أو بديهيات بل على كسل معرفي.

في مثال يجاري التبسيط السائد، وأثناء الجدل العرقي والطائفي السوري، كانت طائفتا ريال مدريد وبرشلونة من السوريين أنفسهم تتبادلان الردح بعصبية مشابهة، مع اختلاف وجيه هو أن كلاً من طائفتي ريال مدريد وبرشلونة يضمّ خلطة طائفية وعرقية سورية، وقريباً مع مباريات كأس العالم سنشهد في ربوعنا ذلك الردح بين طوائف البرازيل والأرجنتين وألمانيا وسواهم، بما يختلف عن ترسيمة طوائفنا وإثنياتنا. لعل ذلك يفتح على أسئلة ساذجة من نوع الحاجة الحقيقية إلى انتماءات فردية مركبة، ومن نوع العثور على هذه الانتماءات خارجاً وفقدانها محلياً، ومن نوع البحث عن الأسباب المركبة والمديدة التي منعت أن يكون لدينا أندية أو منتخبات تحظى باحترام مشجعينا، فضلاً عن ذلك الفقر في ميادين الثقافة والفنون وعدم وصولهما إلى أوسع الشرائح الاجتماعية؛ على ألا يكون التبرير جاهزاً كالعادة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها