الجمعة 2018/04/06

آخر تحديث: 08:30 (بيروت)

ترامب يشعل حرباً ديموغرافية

الجمعة 2018/04/06
ترامب يشعل حرباً ديموغرافية
increase حجم الخط decrease

يحق لمراقب السياسة الأميركية عن بعد أن يتساءل؛ كيف يمكن للسلطة التشريعية الأكثر استقلالية في العالم ان تتعايش مع رئاسة دونالد ترامب النزق، الوقح والمنفلت من عقاله، الذي حوّل البيت الأبيض الى سيرك يومي غير مألوف يقوم على الارتجال والمزاج؟ كيف لا وقد ارتجل ترامب بالأمس، وهو يستقبل قادة دول البلطيق في واشنطن، حالة حرب فورية مع جارته الأقرب عندما اعلن في دردشة مع الصحافيين ثم في مؤتمر صحافي مع ضيوفه انه سيأمر القوات المسلحة بالإنتشار على الحدود الجنوبية مع المكسيك لضمان أمن البلاد.

فاجأ اعلان ترامب حتى أقرب مستشاريه الحاضرين الذين لم يتمكنوا من إخفاء علامات الدهشة، وهو يقول انه ناقش الأمر مع وزير دفاعه الجنرال جايمس ماتيس، بالضبط كما فاجأهم قبل يومين بإعلانه سحب قواته من سوريا. في الحالتين لم يعط ترامب أي تفاصيل. كان واضحًا أنه كالعادة يريد ان يخطف الأضواء ويحتل عناوين الأخبار، وهذان امران لا يهمان الكونغرس ذي الأغلبية الجمهورية الذي لا يهمه من ترامب تغريداته او نهفاته أو عداواته الشخصية الصبيانية، ما دام كل ذلك يشكل ستارة دخانية تمر خلفها أجندة أركان الحزب الجمهوري بندًا بعد آخر، خصوصًا وانهم يواجهون في الخريف المقبل هزيمة شبه محققة ستضعهم في الأقلية وتبعدهم عن موقع القرار التشريعي بينما سيكون رئيسهم في متاهة إجراءات العزل او على الأقل في دوامة فضائح لن يسكت عليها الديمقراطيون.

ففي الوقت الذي كان ترامب يعلن حربه من طرف واحد على المكسيك، كانت دوائر واشنطن منشغلة بحرب حقيقية بدأتها إدارة ترامب عبر استعداداتها لإجراء الإحصاء السكاني ربيع العام 2020. انها الحرب الديموغرافية التي تشغل بال المحافظين الذين لم يعد في مقدورهم منذ رئاسة رونالد ريغان (1980-1988) إخفاء حقيقة انهم تحولوا من حزب ابراهام لنكولن قائد الحرب الأهلية وهازم الإنفصاليين ومحرر العبيد، الى ما يشبه نادياً محدود العضوية للبيض الأثرياء ذوي الأصول الأوروبية والميول العنصرية. فبعد جملة قرارات أصدرتها إدارة مكتب الإحصاء التابع لوزارة الإقتصاد عن تخفيض تمويل الموازنات الاعلانية والتثقيفية التي تحث السكان جميعًا على المشاركة في التعداد السكاني، ما يعني الانتقاص من عدد المهاجرين والملونين الحذرين اصلًا من إعطاء أي معلومات شخصية لأية جهة حكومية، توجت إدارة الإحصاء سعيها بالإعلان أن استمارات الإحصاء ستحتوي للمرة الأولى منذ سبعين سنة سؤالًا عما إذا كان المجيب على استمارة الإحصاء مواطنًا أم لا.

لا تقتصر تبعات هذا السؤال على امتناع الكثيرين من غير الحاصلين على الجنسية، خصوصًا الآتين من دول لا يكف ترامب عن مهاجمتها والإساءة اليها عن المشاركة، انما ستؤدي الى نتائج تضر بالكثير من الولايات الكبيرة المتعددة الإثنيات والألوان والتي لا تصب ماؤها الانتخابية في طواحين المحافظين مثل نيويورك وكاليفورنيا، فيما العين الحذرة تتطلع بحذر الى التحول الديموغرافي المتسارع في ثاني اكبر ولايتين سكانيًا؛ تكساس وفلوريدا. أهمية الإحصاء في هذا التوقيت السياسي أنه ستتوقف على ارقامه إعادة رسم الدوائر الانتخابية، حيث لا ينص الدستور على ربط عدد مقاعد ممثلي كل ولاية في مجلس النواب على عدد حاملي الجنسية وانما على عدد السكان.
هذه أولى القضايا واهمها لأنها ستكون ثابتة لعشر سنوات مقبلة، لكن هناك قضايا لا تقل أهمية في المستقبل المنظور ومنها تمويل التعليم والتعليم العالي والبنى التحتية والخدمات الصحية والنفسية. لذلك سارعت 17 ولاية وعدة مدن الى التقدم بشكوى قضائية ضد إدارة ترامب لإلغاء السؤال التخويفي عن الجنسية من استمارة التعداد السكاني. أبرز الولايات التي تقدمت بالشكوى الجماعية نيويورك، فيما سبق لولاية كاليفورنيا ان تقدمت بدعوى منفصلة. كذلك تقدمت بشكاوى مشابهة كل من مدن نيويورك، شيكاغو، فيلادلفيا، سان فرانسيسكو، سياتل، وبروفيدانس في ولاية رود ايلاند. وكانت المرة الأخيرة التي تضمنت استمارة الإحصاء سؤالًا عن الجنسية عام 1950، وتم التخلي عنها بعدما تبين ان مكتب التحقيقات الفدرالية والأجهزة الأمنية، خلال الحرب العالمية الثانية، استخدمت معلومات الإحصاء لتعقب واعتقال اليابانيين واقتيادهم الى معسكرات اعتقال تشبه المعسكرات النازية والسوفياتية في حينه. وجرى بعد ذلك إقرار تشريعات تمنع الاطلاع على معلومات الإحصاء من اية جهة رسمية امنية او مدنية تحت طائلة العقوبة المشددة، الاّ أن الجو السياسي الحالي في ظل رئاسة ترامب لا يشيع الكثير من الثقة بذلك.

يعرف ترامب بالتأكيد أن هذه الحرب ستوفر له الكثير من الحماية الجمهورية في مواجهة التحقيقات التي تقترب اكثر فأكثر من البيت الأبيض، هذه الحماية الضرورية جدًا جعلته منذ اليوم الأول ينفذ البرنامج المحافظ تدريجيًا بدءًا بتسمية القاضي اليميني المتشدد نيل غورسيتش للمحكمة الدستورية العليا خلفًا للقاضي المشهور انتونن سكاليا، ثم تمرير اكبر تعديل ضريبي في التاريخ الأميركي العام الماضي والذي خفض الضريبة على ارباح الشركات الكبرى من 35 بالمئة الى 21 بالمئة، كما خفض الضريبة عن الأثرياء وذوي الدخل المرتفع وألغى الضرائب عن الميراث كليًا، وعلى الرغم من فشل الجمهوريين في الغاء الإصلاح الصحي لإدارة باراك أوباما اصدر ترامب سلسلة مراسيم تنفيذية تحرم الخدمات الصحية من الموارد الفدرالية فيما حرم الإصلاح الضريبي 13 مليون أميركي من التأمين الصحي، وهذه كلها عناوين رئيسة في البرنامج السياسي للجمهوريين.

العنوان الرابع الذي حققه ترامب كان في التوقيع على الموازنة الأخيرة في شباط الماضي والذي تضمن اقتطاع موازنات حوالي 15 مؤسسة حكومية تعني بشؤون البيئة والتعليم والفضاء والتأهيل المهني والوقاية الصحية والمحميات المخصصة للحيوانات المعرضة للإنقراض وكل ما يتعلق بدراسات التغير المناخي والاحتباس الحراري والتثقيف والفنون والمساعدات الخارجية خصوصًا المتعلقة بالتوعية الديموقراطية وحقوق المرأة، والتي سبقتها مباشرة ترامب في التخلي التدريجي عن المحميات الطبيعية واباحتها لإستخراج النفط والنشاطات التجارية والاستثمار.  

بعد سنة وثلاثة أشهر على وصول ترامب الى البيت الأبيض يبدو الحزب الجمهوري كقواد لا يهمه شيء سوى المردود المباشر الذي يمكن تصريفه انتخابيًا وسياسيًا بصرف النظر عن وسيلة الوصول الى ذلك. ففي رئاسة ترامب يبدو وكأن الأمر لا يعدو كونه تنافسًا لا اخلاقي بين قوادين لا تهمهم سمعة أميركا او موقعها، ولا تهمهم الديموقراطية التي تغنت بها اميركا في وجه العالم لأكثر من قرنين من الزمن. ففي البيت الأبيض رئيس يرشح اعجابًا بذكورية قرينه الروسي فلاديمير بوتين وحزب جمهوري لا يختلف عن مجلس الدوما الا في حقيقة ان الانتخابات في أميركا حقيقية مهما حاولوا وقف التاريخ، تمامًا كما انهم لم يتمكنوا رغم كل الغصات والمطبات من وقف نمو اميركا. ففي الإحصاء الأول الذي كان يعتبر الأسود ثلاثة أخماس انسان عام 1790، كان عدد سكان اميركا أقل من أربعة ملايين بقليل (3.929.326) وفي الإحصاء الأخير عام 1910، أصبح العدد أقل من 310 ملايين بقليل (308.745.538). الفارق أنه في الاستفتاء الأول كانت اميركا بيضاء صافية لا تحصي السكان الأصليين وتختزل العبيد الى أرقام كسر بيد اسيادهم، اما في الإحصاء الأخير فكان رئيس أميركا باراك حسين أوباما اسود وابن مهاجر.

محمد العزير


    

       

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها