الثلاثاء 2018/05/01

آخر تحديث: 07:55 (بيروت)

طوفان القاهرة الجديدة

الثلاثاء 2018/05/01
طوفان القاهرة الجديدة
لا نجاة في عزلة عن بقية المجتمع (ناشطون)
increase حجم الخط decrease
أحالت الرقابة الإدارية، مؤخراً، عدداً من المسؤولين المصريين في وزارات وهيئات حكومية، إلي النائب العام، ليواجهوا تهماً تتراوح بين التقصير الفني والإهمال والفساد، فيما قامت وزارة الإسكان بتغييرات طارئة في صفوف قياداتها. تأتي تلك الخطوات على خلفية أمطار يوم الثلاثاء الماضي، التي أغرقت شوارع واحد من "أرقى" أحياء العاصمة، "القاهرة الجديدة"، وتسببت في انقطاع التيار الكهربائي لساعات، إضافة إلى خسائر مادية وتلفيات ليست بالقليلة، وقطع الطرق وعزل المنطقة عن القاهرة ليوم أو أكثر.

ما طرحته التحقيقات الأولية، أن الأمر لم يكن "كارثة طبيعية"، كما أدعى الإعلام في البداية، فالمدينة الجديدة التي لم تكن شبكة صرفها مجهزة لاستيعاب مياه الأمطار، ولا طرقها مصممة لتصريفها سطحياً، ولا محطاتها الكهربائية وطلمبات الرفع بها مهيأة للتعامل مع الطوارئ، كشفت طبقات من الإهمال والتراجع المهني والفني وغياب التنسيق والفساد الإداري الذي ينخر الأجهزة الحكومية. لكن الطوفان الصغير الذي أصاب الحي الواقع عند أطراف القاهرة، لم يكن الأول من نوعه. فبشكل دوري، تتعرض مناطق سيناء، وأحياناً الصعيد، لسيول، تنتهي بخسائر في الأرواح وتلفيات مادية فادحة، نتيجة سوء تصميم مخرات السيول، أو عدم وجود شبكة لصرفها في الأساس. وتقف الأسباب نفسها، من سوء الإدارة والفساد المتعمد، وراء حوادث الطرق، والسكك الحديدية، وانهيار المباني، والحرائق، وحوادث أماكن العمل، والتي تحصد أرواح ألوف الضحايا سنوياً. لكن، مع هذا، فإن واقعة غرق القاهرة الجديدة، نالت اهتماماً خاصاً، وقدراً معتبراً من الجدل العام.

فصُور السيارات التي غمرتها المياه بالكامل، والطوابق الأرضية من البنايات التي طفا الأثاث المنزلي على سطح بركها، هي أكثر من مجرد مأساة إدارية عابرة، بل علامة على فشل مشروع كامل للهندسة الاجتماعية في مصر، ومعه حلول الطبقة الوسطى العليا لمعضلة خدمات الدولة المتواضعة ومصادر تمويلها. فمشروع الحيز الحضري البديل، الذي جسدته القاهرة الجديدة، وبالأخص التجمع الخامس، الذي تأثر أكثر من غيره بالأمطار، كان معنياً بحسم مشاكل القاهرة المتفاقمة بهجرتها، والتعامل مع إشكالية الطبقات الأدنى وتبرمها المتزايد، بالانعزال عنها، والاستعاضة عن خدمات الدولة بالقطاع الخاص. لكن الواقع الموازي الذي تخلقه المدارس الأجنبية والمستشفيات والنوادي الرياضية الخاصة وشركات التطوير العقاري المعنية بالإسكان الفاخر، ليس المعضلة في حد ذاته. فهو عرض لتشوهات أوسع، تتعلق بأولويات الدولة، وطرق إدارة النظام السياسي للعلاقات الطبقية، وبنود تعاقده الاجتماعي مع الطبقة الوسطى وعلى رأسها الشرائح العليا من البيروقراطية الحكومية. فالدولة في مقابل أن تضمن ولاء الطبقات القادرة، ولتتخلص من عبء تبرمها، أتاحت خيارات بديلة للعيش بشكل مستقل عن الحاجة لخدماتها، كما تمويلها أيضاً، أو على الأقل قدمت بدائل وحلولاً لشرائح بعينها في عزلة عن بقية المجتمع وعلى حساب غالبيته بشكل ضمني.

كان الطوفان الصغير، سبباً للتذكير بأنه لا نجاة في عزلة عن بقية المجتمع، وأن حلولاً كلية لمشكلة الحكم لا غنى عنها، وأن القطاع الخاص - مهما بلغ توسعه - لا يمكن أن يكون بديلاً عن الدولة وبالأخص في مجال البنية التحتية، وأن الخدمات تعني تمويلاً ضريبياً بالضرورة، وأن كلاهما يستلزم تمثيلاً سياسياً، وأنه لا مفر من التعرض لمعترك هذا كله. تفرعت النقاشات التي حفزها غرق القاهرة الجديدة، إلى لوم "أنانية" الشرائح العليا من الطبقة الوسطى وقصر نظرها، وأحياناً شماتة مبطنة أو علنية فيها، وأحياناً أخرى دفاع عن "الحلول الفردية" بوصفها خيار العاجز لا أكثر، ولجوءاً للممكن في حده الأدنى.

في المحصلة الأخيرة، لم تغير أمطار الربيع، الوضع القائم، بل عززته. فالسلطة التنفيذية، مع نواب البرلمان، أبدوا اهتماماً استثنائياً بالحدث، لا يتوافر لوقائع مماثلة تطاول مناطق وأحياء أفقر، والأجهزة الرقابية تحركت على وجه السرعة ومعها النيابة العامة، بحماس لا يظهر في كوارث أفدح بكثير، لتؤكد الدولة التزامها بعقدها الاجتماعي مع الطبقات الميسورة، فيما كان رد فعل الكثير من المتضررين هو تأفف من "الحقد الطبقي" عليهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها