الثلاثاء 2018/04/03

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

غزة والسِّلمية المستحيلة

الثلاثاء 2018/04/03
غزة والسِّلمية المستحيلة
تبكي شهيداً أسقطه الرصاص الإسرائيلي خلال تظاهرات "يوم الأرض" في خان يونس (غيتي)
increase حجم الخط decrease
سقط 16 قتيلاً برصاص القوات الإسرائيلية، وأكثر من ألف جريح، في فاعليات "يوم الأرض" بالقرب من الحدود الشرقية لغزة. لا إصابات في الجانب الإسرائيلي بالطبع، لكن "الغارديان" تصفها بالـ"مواجهات"، والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة تعرقل أي محاولة لإدانة "الاستخدام المفرط للقوة" في مواجهة تظاهرات سلمية، بل وعارضت حتى إمكانية الاتفاق على بيان يدعو إلى "ضبط النفس". فوجهة نظر الإدارة الأميركية، هي أنه لم يحدث ما يستحق التعليق أساساً.

أما سلطات الاحتلال، فروايتها أبسط وأكثر مباشرة، ولا تستدعي جهداً لإثباتها. لا تنفي إسرائيل أن فاعليات "يوم الأرض" كانت سلمية، لكن عناصر "إرهابية" كانت قد تسربت إليها، وانتهزت الفرصة لتنفيذ هجماتها، ولم يكن أمام جنود "جيش الدفاع"، الأكثر أخلاقية في العالم، كما وصفهم نتنياهو، سوى أن يدافعوا عن أنفسهم ويقوموا بمهمتهم "القانونية". تؤكد إسرائيل للعالم أيضاً، أن كل شيء تم بدقة، وأن "الأهداف" تم تعيينها واصيبت بكل إحكام. ولا يفوت سلطات الاحتلال تذكيرنا بأن هذه لم تكن مظاهرات "في أوروبا".

ما يسرى في أوروبا، لا يسرى في غزة. فحق التظاهر السلمي، وقواعد التعامل مع الاحتجاجات المدنية، تقتصر على نطاقات محددة من العالم، وعلى بشر دون آخرين. ففي مساحات أخرى، كل ما يتحرك هو هدف "قانوني" لإطلاق النار. في غزة، السلمية فرضية مستحيلة، فخلفها دائماً خطر الإرهاب، ووراء كل مدني أعزل مسلح متخفٍّ. يبدو المنطق الإسرائيلي مقنعاً جداً، بلا جهد. فقواعد تقسيم العالم وبشره، راسخة، وأقدم من إسرائيل نفسها. وللأسف فإن الفلسطينيين، وأشباههم، لم يُكتب لهم أن يولدوا في الأوفر حظاً من التقسيم. تمثل إسرائيل الحداثة، حيث يكتسب القتل أخلاقيته من النظام، والدقة، والإحكام. كل قتل هو قانوني، طالما أنه "تنفيذ للأوامر القانونية"، كما قال إيهود باراك تعليقاً على الأحداث. وكل قتل هو أخلاقي، طالما أنه مُحكم، ودقيق، وبارع. وفي الجانب الآخر من الحدود، يقف الفلسطيني، نقيض الحداثة، "اللا-أوروبي"، حيث كل فرد هو "إرهابي" إلى أن يثبت العكس.

يقع النضال الفلسطيني في أحابيل "السلمية" ومعضلتها المستحيلة. فخطاب النضال السلمي، الذي كانت بدايته الأقوى مع استقلال الهند، وتم ترسيخه لاحقاً، على عكس الحقيقة، مع سقوط نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، تحول بانهيار أنظمة الكتلة الشرقية مطلع التسعينات، إلى وضعه الاستثنائي، بوصفه خطاباً حصرياً، بلا بدائل. فتمجيد النضال المسلح، ورمزية الكلاشينكوف، والتي تلازمت مع حركات الاستقلال الوطني في الدول المستعمرة، والثورات ذات المرجعية الماركسية، كان قد تلاشت من الذاكرة التاريخية، أو أصبح عنفها عاراً، تحفظ ذاكرته على مضض. في عالم "نهاية التاريخ" المعولم، وديموقراطية الرأسمالية النيوليبرالية، يبقى خيار واحد أمام المقهورين، السلمية.

لكن خيار "اللاعنف"، يبدو مصمماً لتجريد المقهورين من كافة أسلحتهم، بل وحتى أقلها تأثيراً. فخطاب السلمية في هيمنته الكاملة اليوم، يفرض إدانة أخلاقية تجاه أي نضال مسلح أو استخدام للعنف، في المطلق، من دون النظر في عدالته أو دوافعه أو سياقه. لا تدين السلمية عنف الدولة/المستعمِر بالضرورة، فعنف الدولة واحتكارها له، قانوني بالتعريف. وإن تجاوزت الدولة/المستعمِر قواعدها في استخدام العنف، فإن الساحة الوحيدة لمواجهتها، هي محاكمها نفسها، وبقوانينها أيضاً. أما في المجتمع الدولي ومؤسساته، فلا إدانة لاستخدام الدولة/المستعمِر للقوة، فهذا حقها بالتأكيد، وإن كانت تكتفي بإدانة الأفراط في استخدامها. وإن سعى المقهورون، بعد هذا كله، إلى النضال عبر الأساليب السلمية، فليس أمامهم سوى أن يواجهوا الرصاص بصدورهم العارية، وأن يواجه من يسير وراء أكفانهم رصاصاً أكثر، وهكذا.

ولا عجب، فكل مقهور، إرهابي محتمل، بالتعريف، طالما أنه ليس "في أوروبا". وحين يكفر بالسلمية، مَن لم يسقط بعد، ويحمل السلاح، تصبح رواية الإرهاب، نبوءة ذاتية التحقق، ومنطقاً دائرياً يثبت نفسه بنفسه، ولا مخرج منه. هكذا، يسير خطاب الحرب على الإرهاب، مع خطاب السلمية، يداً بيد، ليس بغرض تجريد المقهورين من حقهم في النضال المسلح، بل -والأدهى- لنفي إمكانية النضال السلمي أيضاً بالكامل.

في غزة، كما في سوريا، وغيرهما أماكن كثيرة، يجد المقهورون أنفسهم أمام معضلة السلمية، ليخسروا معركتهم أمام الرصاص الحي في سلميّتهم، ويخسروها أيضاً حين يحملون السلاح، وينظر العالم بقليل من اللامبالاة، أو في بعض الأحوال ببعض القلق، الذي يتبخر سريعاً بعد أن يصدر بيان أممي يدين "الاستخدام المفرط للقوة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها