الإثنين 2018/04/02

آخر تحديث: 09:32 (بيروت)

هل أصبح ترامب حليفاً للممانعة؟

الإثنين 2018/04/02
هل أصبح ترامب حليفاً للممانعة؟
increase حجم الخط decrease

أطلقَ إعلان ترامب نيته سحب القوات الأمريكية من سوريا  تحذيراً قوياً من خبراء الأمن القومي الأمريكي وحلفاء الولايات المتحدة المحليين في سوريا، من أن الانسحاب سيحدث فراغاً يرفع احتمالات عودة قوية لداعش، ويطلق اليد الإيرانية في المنطقة، ويتسبب بتهديد أمن الدول الحليفة للولايات المتحدة.  هذا الإعلان قوبل بترحاب شديد، واستثمار سياسي وتهليل اعلامي مضخم من قوى الممانعة بأن مآل الأزمة السورية قد حسم لصالحها، وأن الحلف الروسي-الإيراني بات المرجعية الحصرية في هندسة مستقبل سوريا السياسي، وأن عدد القوى الشيعية الضخم في سوريا سيصبح جزءا من أجهزة الدولة السورية الشرعية.  

 إعلان ترامب جاء في سياق احتفال محلي لا يخلو من دوافع انتخابية للرئاسة الثانية. وهو إعلان يخاطب الذهنية الأمريكية المحلية بكثير من الصياغات الشعبوية غير الدقيقة وغير المحددة، لإثبات جدارة الرئاسة الترامبية وإشباع الغرور الأمريكي بالتفوق والعظمة.  ما يجعل إعلان ترامب لا يتعدى أكثر من القول بأن مهمة القضاء على داعش قد أنجزت بنجاح كبير ولم يعد هنالك حاجة لبقاء القوات الأميركية الموكل إليها هذه المهمة. لذلك فإن إعلان ترامب يندرج ضمن تقليد سياسي راسخ في الولايات المتحدة، بعدم أخذ الخطاب السياسي الداخلي الذي يتطرق إلى موضوعات خارحية واستراتيجية على محمل الجد، لأنه يأتي في سياق المسعى لبناء رأي عام مؤيد أو مضاد للسياسة الرسمية، وفي سياق حملات تغلب فيها الدوافع الانتخابية.  أما المواقف الدولية الاستراتيجية، فيمكن التعرف إليها داخل مطابخ التخطيط القومي وأجهزة التفكير الاستراتيجي التي تحيط بالرئيس ولا تكتفي بإبداء النصح في اتخاذ المواقف الآنية، بل تكون منشغلة في رسم استراتيجية أداء طويلة الأمد في إدارة الملفات الخارحية.

صحيح أن ترامب شخصية عفوية وتفاجيء الجميع بمواقف نافرة وغير متوقعة، إلا أن رصدا بسيطا لأداء حكم ترامب في إدارة السياسات الخارجية، يبين التزام ترامب بمسار استراتيجي ثابت ومدروس، مع هامش تعبير ومناورة اتسما بغرابة شديدة عكسا غرابة شخصية ترامب نفسه.  فالموقف الانتخابي السلبي ضد الاتفاق النووي مع إيران لم يؤثر على شرعية الاتفاق وفعليته، بل لم يغير من السياسة الأمريكية المتبعة منذ عهد أوباما في التعامل مع إيران، والتصعيد ضد كوريا الشمالية بقي في إطار الضغط الاقتصادي والتهويل الإعلامي، في حين ظل العمل الدبلوماسي ناشطاً بوساطة (أو توسيط) صينية لنزع السلاح النووي الكوري بطرق سلمية.  أما الحضور الأمريكي في سوريا فقد بقي ضمن سياسة التقليل من عدد الجنود الأمريكيين وتعويض ذلك بوكلاء محليين وقدرة تدخل سريع وتفوق عسكري وتقني يمكن ممارسته عن بُعد، هذا فضلا عن فائض الطاقة الاقتصادية التي تملكها الولايات المتحدة والقادرة لوحدها على ضخ الحيوية داخل أي بلد، أو خنق كل مظاهر الحياة والاستقرار فيها.

هذا يعني أن الجديد في تصريح ترامب، على فرض جديته، هو اعتماد أداء جديد يحقق مكاسب أعلى بكلفة مادية وبشرية أقل،  وليس تغيراً في استراتيجية إدارة ملف المنطقة، التي تقوم على تأطير الأزمات وتحديد مجالها ووضع قواعدها والتحكم في درجة صعودها وهبوطها ودوزنة بدايتها ونهايتها. فسحب القوات العسكرية الأمريكية  لا يعني خروجاً أمريكياً ولا يفسر بهزيمة أمريكية، بقدر ما يعني ثقة أمريكية بالتحكم بمجريات الأمور عن بعد من دون حاجة إلى تورط مباشر واشتباك ميداني مع قوى الخصم، بل يُفهم على أن الولايات المتحدة ما تزال المرجعية الحاسمة في صياغة الحلول السياسية لسوريا وللمنطقة بأسرها، على الرغم من ضخامة عدد القوى المضادة وكثافة خطابها التعبوي وصخب تهويلها الإعلامي.  

لذلك وعلى الرغم من انشغال وسائل الإعلام في المجال العربي بإعلان ترامب، فقد كان لهذا الإعلان قيمة ثانوية في الداخل الأمريكي، ولم تتعاطى معه النخب الاستراتيجية بجدية، بحكم أنه أعلانه يشبه تغريداته اليومية التي لا يأخذها فريقه المحيط به على محمل الجد ولا يندرج ضمن البيان الرسمي للسياسة الأمريكية.  يتأكد هذا حين نعلم بأن إعلانه هذا يناقض تصريح وزير خارجيته الحاسم بأن الولايات المتحدة باقية في سوريا إلى أجل غير مسمى لضبط الحدود السورية العراقية، ولا ينسجم أيضاً مع تشكيلة المسؤولين الجدد الذين عينهم ترامب، والتي سميت بحكومة حرب، بسبب تأييد أكثرهم لفكرة الضربات العسكرية المباشرة ضد إيران والنظام السوري، ولا يتوافق مع المعطى الميداني الذي يؤكد سيطرة الولايات المتحدة على نسبة لا تقل عن 30 بالمئة من الأراضي السورية ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية، وهي سيطرة كرر الأمريكيون عدم تنازلهم عنها بإنزال ضربات موجعة للروس والجنود السوريين. بل يمكن القول إن عجز الروس والإيرانيين عن اجتراح أي حل سياسي نهائي من دون مباركة أمريكية،  هو تعبير عن أبسط مظاهر التحكم الأمريكي في الأزمة السورية، وأن كلمة السر النهائية للحل تصدر من واشنطن لا من موسكو أو طهران.

المستغرب هو الإعلان الساذج بالانتصار، عقب إعلان ترامب، من قبل قوى تعاني أزمة عميقة في إقناع جمهورها بجدوى التضحيات الهائلة التي قدمتها في حرب طاحنة باتت في أكثر تفاصيلها عبثية. ولا تملك هذه القوى القدرة على إنهائها أو حسمها لصالحها، أو حتى جني ثمار سياسية توازن حجم خسائرها البشرية الضخم.  هو مأزق تعمد هذه القوى إلى التغطية على مأساته وانسداداته بصياغات أيديولوجية حول معارك الحق والباطل وببشارات نبؤاتية حول نهاية التاريخ، بل تراها تعمد إلى توظيف مواقف الخصم بعد تأويلها الاستنسابي وإخراجها من سياقها، مثل التأويل الأخير لإعلان ترامب، الذي يكاد يصوره حليفاً موضوعياً للممانعة بسبب الهدايا المجانية التي يقدمها لها.

أهم خلل في ميزان القوى بين المجال الغربي والمجال الشرق أوسط العربي-الإسلامي، أن الأول يستدعي عناصر القوة من خلال شروط إمكانها البشرية والمادية والتاريخية، أي شروطها المعقلنة، مع قلة حاجة إلى التبجح بفائض القوة، والكثير من الشفافية أمام جمهورها.  أما الثاني فيستدعي القوة من خلال متخيل أسطوري متعال عن كل شرط إنساني أو تاريخي، أي استدعائها بعقل مستقيل، مع رغبة جامحة باستعراض القوة رغم وضاعتها، وقليل من المسؤولية في التعاطي مع جمهورها بصدق وشفافية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها