الأربعاء 2018/04/11

آخر تحديث: 08:24 (بيروت)

مصر..حياة ما بعد الثورة

الأربعاء 2018/04/11
increase حجم الخط decrease

حصلت الانتخابات  الرئاسية المصرية بإقبال وطني معتبر للمقترعين، ونجاح كاسح للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، أعقبه احتفال عام بحصول الحدث الانتخابي بسلاسة، واستمرارية لمشاريع النهضة والإصلاح الداخليين الذين شرع السيسي في إطلاقهما، إضافة إلى مناخ الاستقرار السياسي والأمني الذي عم مصر بعد القضاء على حكم الإخوان المسلمين وحل تنظيمهم واعتبار عناصره خارجين على القانون.

لم ينل المشهد الإنتخابي لدى وسائل الإعلام الغربية التقدير الإيجابي الذي روجته أجهزة الإعلام المصري الرسمية.  فالانتخابات بدت للمراقبين أقرب إلى استفتاء على التجديد للسيسي منه إلى منافسة فعلية وناشطة، خاصة وأن الشخصيات البارزة في مصر أعرضت عن الترشيح إما لضغوط قانونية أو سياسية أو عدم ثقتها بجدوى معركة محسومة النتائج سلفاً بسبب تحكم السلطة بوسائل الدعاية وعدم الشفافية الكافية للعملية الاتخابية.

انصب التقييم الغربي على المعايير والمؤشرات التي تجعل العملية الانتخابية ديمرقراطية، في حين أن أساس المشكلة هو في ضعف أو هشاشة بل ربما انعدام الحياة السياسية، على الرغم من حصول ثورة انتزع فيها الشارع المصري المبادرة في صناعة واقعه ورفضه الوصاية عليه وأنعش الآمال بالتغيير باتجاه شروط حياة ضامنة للحقوق والأمن الحياتي. وهو ما يجعلنا نتسائل: هل نحن أمام ثورة غير منجزة  لم تتعدى كونها قوة اندفاع اجتماعي (أو شعبي) كاسح لتغيير الواقع، ولم تنتقل بعد من حال المطلب والاحتجاج إلى حال المأسسة (Institutionalize) لتطلعاتها وأمالها الجديدتين، الذي لا يقتصر على تغيير منطلقات السلطة وإجراءاتها وأساس مشروعيتها، بل يحدث تحويلاً في تكوين المجتمع نفسه وأطر علاقاته، وأعرافه ونظم قيمه. فالثورة في عمقها تحويل جذري للمجتمع أكثر منه تغيير للسلطة.

السؤال الأصعب هنا لا يتعلق بنجاح أو إخفاق الثورة، بل يتعلق بحقيقة الثورة نفسها، وعما إذا كانت من الأساس قد حملت قيماً جديدة منافسة للقيم التقليدية السائدة في المجتمع، واعتمدت مرتكزات انتظام اجتماعي- سياسي مختلف عن الانتظام السائد تاريخياً في المجال العربي منذ تأسيسات الأحكام السلطانية للماوردي في القرن الخامس الهجري، والتي تقوم على سلطة المتغلب ذي الشوكة لضمان استقرار المجتمع وأمنه.

وهي تأسيسات أحدثت فجوة عميقة بين الدولة التي بقيت مشخصنة من جهة وبين المجتمع الذي لم يعد الشأن العام جزءً من ثقافته وتضامناته من جهة أخرى. كما أنها أحدثت تخارجا بين الحرية والدولة، لجهة أن الحرية باتت بحسب الأدبيات السلطانية طريق الفوضى والإختلال والعشوائية للحياة والمجتمع. فلا يمكن للأمن أن يستقيم إلا بحرية واحدة هي حرية الرأس، حرية واحدة مطلقة فقط، ولا وجود لحريات أخرى.

أصبح مفهومُ الحريةِ الأصليةِ منعدمٌ في السلطةِ لأن الدولةَ ملكٌ لعُصبةٍ حاكمةٍ ممثلةٍ في شخصِ الحاكم, يتصرف كيف يشاء. واقتصر العدلُ على المحافظةِ على الأمنِ وتنظيمِ تنازعِ الناسِ وتدافعهِم. بالتالي حصل تخارجٌ بين مفهوم الحريةِ ومفهوم ِالدولة، بين الدولة والقيمة الأخلاقية، بين التاريخ والحرية، بين قانون الجماعة ووجدان الفرد.  فلم يعد بالإمكانِ تصورُّ الحريةِ في المجتمع العربي التقليدي إلا خارجَ الدولة أي في نطاق الطوبى، وبات الفرد لا يعرف الحريةَ إلا إذا خرجَ من الدولة أو النظام وآثر العيش في أرض البداوة والتوحش والبدائية والتحلل الخلقي.

الذي حصل أن الثورات العربية تضمنت أخلاقيات وآمالاً،  ونجحت في تعبئة الحشود لتعبر عما "يريده الشعب"، من دون أن تستند إلى خلقيات انتظام جديد ومنطق علاقة مختلف بين الحاكم والمحكوم. أفاضت الثورات العربية في محاكمة الواقع وإدانته ولم تعمد إلى فهمه والتعرف إلى مكوناته وبناه ودينامياته الخاصة، طالبت الواقع بنتائج قبل أن ندرس قابلياته وإمكاناته الذاتية لتحقيقها، بالغت في إدانة للسلطة وركزت على فشل الدولة وقدمت سرداً مفصلاً لمشاكلها وإخفاقاتها وانتهاكاتها، من دون النظر والتفكير في حقيقة الدولة وطبيعتها، ومقترحات جدية لأي إنتظام سياسي جديد أو أسس تضامن اجتماعي يزحزح القيم التقليدية الراسخة. أي تظاهرنا وشكونا كثيراً لكن فكرنا ونظرَّنا قليلاً.

هذا الأمر أعاد الواقع السياسي بعد نجاح الثورات العربية إلى صور الانتظام السابقة عليها، التي تخير المجتمع بين القيادة الكارزمية المطلقة الضامنة وحدها أمن المجتمع وتماسكه أي سلطة ذات الشوكة من جهة، وبين الوقوع في الفتن والفراغ والارتماء في عبث تيارات اللادولة من جهة أخرى.  هي ثنائية جاءت الحركات الإسلامية، السلمية والجهادية منها على حد سواء، لتعززها وتقويها في وجدان الناس، عندما عمدت إلى اختطاف الثورة وأسلمة مضمونها من دون أن يكون لديها شيئاً حقيقياً تقدمه لإدارة المجال العام سوى هوامات أيديولوجية رديئة. بل تبين أن جميعها كانت تكوينات تقتات على تناقضات الواقع وأزماته، ومشاريع سلطة تقوم على البيعة ولم تكن يوما مشاريع دولة حديثة ذات أفق نهضوي.

وراء الإحتفالية المحلية بالانتخابات الرئاسية المصرية، ووراء تقديرات المراقبين السلبية حول ديمقراطيتها، فإن التحدي الاساسي لحياة ما بعد الثورة المصرية، ليس في إثبات أصالة وطنية أو إشباع كبرياء قومي مبالغ به، وليس أيضاً في الاستجابة لنموذج الديقراطية الغربية الجاهز الذي لا يعتني كثيراً بتنوع السياقات ولا يعبأ بخصوصية الظرف التاريخي، بل التحدي يكون في إبداع شكل حياة جديد انبثق من قلب الثورة وما تزال قوى المجتمع المصري ماضية في تحقيقه ومصرة على جني ثماره ولو بعد حين.    


  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها