الجمعة 2018/03/30

آخر تحديث: 09:27 (بيروت)

حين تبكي روسيا

الجمعة 2018/03/30
حين تبكي روسيا
increase حجم الخط decrease

لا تزال روسيا ، منذ الأحد المنصرم في 25 الجاري ، تحت وقع صدمة الحريق ، الذي شب في أحد مجمعات التسوق والترفيه في مدينة كيميروفو ، جنوب غرب سيبيريا ، وذهب ضحيته أكثر من 64 قتيلاً ، من بينهم 41 طفلاً . كان يمكن للحدث أن يقع في أي مكان وفي أي زمان ، لكن اطفال المدينة السيبيرية ماتوا ليس نتيجة حادث عرضي ، بل ماتوا نتيجة " إهمال وإستخفاف مجرمين" ، على وصف الرئيس بوتين نفسه . فلم يكن المبنى يستوفي أدنى شروط الأمان المتعارف عليها ، ومات الأطفال اختناقاً وراء الأبواب الموصدة ، إذ كانت جميع مخارج الطوارئ معطلة ، ولم يجد رجال الإطفاء ، حين وصلوا متأخرين ، مدخلاً واحداً متاحاً لدخول المبنى .

يقول نائب في مجلس الدوما ، من مدينة كيميروفو نفسها ، بأنه لم يكن من الجائز افتتاح المجمع المذكور بسبب المشاكل الصارخة في نظام الأمان فيه ، واتهم نائب رئيس بلدية المدينة ، بأنه وقع وثيقة استلام المبنى في العام 2013  بعد تلقيه رشوة ، أي بعد أن "اغمضوا عينيه بالنقود" .

واتهمت إحدى الصحف الروسية السلطات بالقيام بكل ما هو ضروري لحماية البيزنس التجاري الترفيهي من الضربة ، بحجة ، أن الأمر يتعلق بحالة فردية ، وإن كانت متوحشة، لكنها ليست ظاهرة عامة. وتنقل الصحيفة عن حسابات مدونين قولها ، بأن جميع مراكز التسوق والترفيه في البلاد قد شيدت بالطريقة عينها ، التي شيد فيها المركز المعني ، دون نوافذ وأبواب ، وهي باقية لن يمس بها أحد . وترى الصحيفة ، أن وتيرة انتشار هذه المراكز تشير إلى أن الحكومة الإتحادية والسلطات المحلية تشجع ، بمختلف الوسائل، هذه المشاريع ، وتغض الطرف عن استخدام مواد البناء الرخيصة والخطيرة في بنائها . وتتساءل مع نشطاء وسائل التواصل الإجتماعي  عن ماهية هذه المراكز ، ما إن كانت قد أعدت مدافن جاهزة ، أم هي مراكز اعتقال مؤقت ، أم عنابر لإحصاء المواطنين ؟

وتقول الصحيفة عينها، بأن البلاد في صدمة ، والناس يحاولون فهم ما جرى فعلياً ، يحاولون تكوين استنتاجاتهم الشخصية ، وليس الإستسلام لاستنتاجات البروباغندا الرسمية. حسابات ذوي الضحايا مليئة بالكتابات الغاضبة ، لكنها تنضح ، بالوقت عينه ، بالعجز أمام آلة الدولة .

لقد تحولت تظاهرات التضامن العفوية مع المدينة المنكوبة ، التي انطلقت في عشرات المدن الروسية ، بما فيها موسكو وسانت بطرسبورغ ، إلى تظاهرات غضب ورفض لواقع الفساد المستشري والإستخفاف بحياة الناس ، الذي وقف وراء الحدث الكارثة.  وقد رفعت بعض هذه التظاهرات شعارات سياسية ، تخطت الحدث ذاته ، وبلغت حد المطالبة باستقالة بوتين نفسه ، كما في تظاهرة موسكو ، مما حدا بوكالة نوفوستي الرسمية إلى القول بان الحدث ترك وراءه "بلداً مختلفاً" .

أحد سكان المدينة ، الذي فقد في الحريق زوجته وشقيقته وثلاثة أطفال، بين الثانية والسابعة من العمر ، كتب في شبكات التواصل الإجتماعي : " لم يعد لدي أسرة ، والمذنب هو النظام الحاكم . كل بيروقراطي يحلم بان يسرق ، كما يسرق بوتين . كل موظف رسمي يتعاطى مع الناس ، وكأنهم قمامة " . وقال الرجل ، بأن المحققين الرسميين سوف يعثرون على كبش محرقة وتنتهي القصة ، لكن المخاطر مثل "عدم الكفاءة ، والفساد العميم ، والإدمان على الكحول ، وانحطاط المجتمع ، سوف تبقى مكانها" .

ردة فعل السلطات المحلية والفيدرالية على الحدث جاءت متأخرة وصادمة . فلم يجد الرئيس بوتين من ضرورة لزيارة المدينة المنكوبة سوى نهار الثلاثاء، أي بعد يومين على الحدث ، ولم يخرج للتحدث إلى الجموع، التي احتشدت خارج أبواب القاعة ، التي كان يجتمع فيها إلى مسؤولي المنطقة ، لأنه "لا يمكن التحدث إلى آلاف الناس" ، على قول الناطق باسمه . وبعد عودته إلى موسكو أعلن عن تحديد الأربعاء المنصرم في 28 من الجاري يوم حداد وطني ، أي بعد ثلاثة أيام على وقوع الحدث . لكنه ، في المقابل، رفض الحديث عن أية إجراءات يمكن أن تتخذ بحق قادة المنطقة ومسؤوليها ، إذ لا يمكن الحديث عن ذلك "إلا بعد انتهاء التحقيقات " في ما جرى ، وليس تحت ضغط الحدث.

أما حاكم المنطقة المعنية ، وهو المتبقي من ايام السلطة السوفياتية ، والمتهم بتحويل المنطقة إلى "شيشان سيبيريا" ، فقد وصف المحتشدين من ذوي الضحايا والمتعاطفين معهم ، بأنهم "مجموعة صغيرة من المشاغبين تقف وراءها قوى خارجية" ، وقدم اعتذاره للرئيس بوتين ، وليس لذوي القتلى وأبناء منطقته . وخرج أحد نوابه للتحدث إلى الناس ، فإذا به يتهم ذوي الضحايا ، باستغلال مأساة أبنائهم للظهور الإعلامي ، ويصف تجمع ذوي الضحايا وأبناء المدينة ، بأنه عمل "مخطط له ، ويهدف إلى تشويه صورة السلطات " ، وامتدح حاكم المنطقة لتجاهله التجمع ، على مدى يومين متتاليين .

وترى إحدى الصحف الروسية ، أن سلوك قيادة المنطقة السيبيرية المعنية يشير إلى أن بعض الإرتباك ، الذي اتسم به رد الفعل الأولي للكرملين على أحداث مدينة كيميروفو ، كان ارتباكاً مؤقتاً ، بل ومتخيلاً . وتنقل الصحيفة عن أحد المحللين السياسيين الروس قوله ، بأن الكرملين ينظر إلى أحداث الأيام الأخيرة بأنها "ميدان مصغر" ، في إشارة إلى انتفاضة العامين 2011 و2012 الروسية . ويقول الرجل ، أن ثمة خطراً في أن تلجأ السلطات إلى الآليات التقليدية في "مناهضة الميدان" ، والتي تتضمن اتهام جميع المحتجين بالعمل لصالح المخابرات الأميركية CIA ، وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية وسواها من الإجراءات المماثلة . وفي النهاية ، سوف يقود كل ذلك إلى إعادة روسيا سنوات إلى الوراء ، ويؤدي إلى نسيان الحديث عن "انفراج داخلي" في المجتمع الروسي .

تشير تجربة روسيا التاريخية الحديثة، منذ ثورتها  في شباط/فبراير العام1917 ، وصولاً إلى انتفاضة العام 2011 – 2012 ، أن روسيا حين تئن وتبكي ، ثمة قدرة لدى حكامها بتحويل أنينها ودموعها إلى مزيد من التسلط ومصادرة الدولة للمجتمع .








increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها