الثلاثاء 2018/12/04

آخر تحديث: 10:47 (بيروت)

مواسم العنف الحميدة

الثلاثاء 2018/12/04
مواسم العنف الحميدة
في مجتمعات الرفاه، فقدت فكرة الديموقراطية معظم بريقها، لفرط بداهتها (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
لدى الفرنسيين طقوس للعنف العام ومهرجانات موسمية لحرائق السيارات. وهي، رغم عدم انتظامها، تظل دورية، كل أربعة أعوام أو خمسة، وأحياناً في عامين متتاليين. ففاعليتها تكمن في عدم دقتها، وعفوية مواقيتها. وتقاليد العصيان هذه، في دوريتها، مكمّلة لطقوس الديموقراطية الإجرائية، وموازية لها، ومؤرقة لدوراتها التصويتية في الوقت نفسه.

ولكل طقس تراث يركن إليه، وليس من الصعب على المرء أن يخمن أصل العنف المدني وجذوره المحتفى بها في فرنسا. فثمة شبه اتفاق عام، على أن الديموقراطية الفرنسية ليست ابنة الانتخابات أو نقاشات البرلمان، بل هي ميراث التخريب والمقاصل والاقتحامات وعهود الرعب. فلنا أن ندّعي، بأن العنف المدني هو أصل الديموقراطية ومصدر شرعيتها في الماضي، وأنه الضامن للإثنين معاً في المدى الطويل.

وليس الأمر حكراً على الفرنسيين. ففي الجهة الأخرى من القناة، لا يختلف الأمر كثيراً في بريطانيا التي حولت ذكريات عنفها الشعبي إلى عيد، تُشعل فيه الحرائق العامة في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام. ولا يقف الأمر عند إطلاق الألعاب النارية، وإحراق الدمى التي تمثل السياسيين في العلن. فمارغريت ثاتشر، امرأة بريطانيا الحديدية، التي فازت في كل انتخابات خاضتها، وانتصرت في كل حرب دخلتها في الداخل أو عبر البحار، لم يسقطها في النهاية ويجبرها على الاستقالة شبه باكية أمام الكاميرات، سوى العنف في الشوارع، ومشاهد سحل المتظاهرين الصادمة في ميدان الطرف الأغر. وكما تشتعل الحرائق في الضواحي وتزحف منها إلى وسط باريس، فإن بريكستون وضواحي لندن الجنوبية، لطالما كانت نقطة اشتعال المصادمات في الثمانينات، التي تبدو صورها اليوم مثل مشاهد حرب أهلية.

ولم يلحق الأذى بالديموقراطية، خلال العقود الثلاثة الماضية، أكثر من نبذ العنف كليةً، ونفي صوره من معادلة الديموقراطية. فبسقوط سور برلين، أصبحت "الثورة" كلمة سيئة السمعة، وحولت "السِّلمية" كل ما تبقى من صور الاحتجاج العام في الغرب إلى مناسبة اجتماعية للشراب، ومهرجان للغناء وقرع الطبول وفرصة سانحة للرقص، تنتهي بأن يعود الجميع إلى بيوتهم من دون أن يتغير شيء. طغى الاستعراض على عنصر التهديد المفترض في كل حشد في الشارع، وحل "التعبير" مكان المطالبة.

فزاعة "اليمين المتطرف" حاضرة اليوم لتشويه الحشد. فالسترات الصفر، ليست سوى جماعات من العنصريين، ومعهم بعض اليسار المتطرف واللصوص، وليست كل الاحتجاجات تقدمية بالضرورة. وتلك الصلة بين العنف الباريسي، واليمين المتطرف، تبدو صحيحة جداً، لكن لأسباب أخرى تماماً. ففي مجتمعات الرفاه، فقدت فكرة الديموقراطية معظم بريقها، لفرط بداهتها، وهيمنت على أفقها السياسي أجندة النيوليبرالية، بوصفها الأمر الواقع، وبلا مقاومة تذكر. فأجيال استرخت في دعة عقود من "الأمان"، في ظل الدولة الراعية وشبكات الضمان الاجتماعي المُحكمة، تجد نفسها اليوم وقد فقدت غريزتها لاستشعار الخطر، أو رغبتها في مقاومة استلاب حقوقها.

يصعد اليمين المتطرف ويزعزع ذلك الشعور المتوهَّم بالأمان، كما يفعل العنف أفعاله. فالديموقراطية تصل إلى أقصى نقاطها حرجاً، حين يستسلم المصوتون لقدريتها بالكامل، وتفترض نخبها الحاكمة استقرار عملياتها وديمومة مؤسساتها. تذكر عمليات التخريب والنهب، حكومة ماكرون، رجل البنوك السابق، أن مشروعها التقشفي ليس محصناً، وأن شرعية انتخابها ليست صكاً مفتوحاً.

الشعار الذي خطّه مُتظاهر على أحد جدران باريس "قطعنا رؤوساً لأسباب أقل من هذه"، لم يأخذه أحد على محمل الجد. لكن مشاهد المعارك المفتوحة في وسط باريس، وقنابل الغاز والمطاردات من شارع إلى شارع، زعزعت الشعور العام بالأمان والصورة الوقورة للديموقراطية. ولم يجد ماكرون أمامه في النهاية، سوى توجيه رئيس حكومته للتفاوض مع المتظاهرين. يعود موسم العنف هذا العام، مع الأعياد، وتشعر الديموقراطية بقليل من التهديد، وتستعيد بعضاً من عافيتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها