الخميس 2018/11/29

آخر تحديث: 12:00 (بيروت)

سيدة سورية تُطعم فقراء موسكو

الخميس 2018/11/29
سيدة سورية تُطعم فقراء موسكو
increase حجم الخط decrease

روسيا، حسب أحد قدامى شعرائها، هي أحجية "بالعقل لا تُدرك". وهي كذلك بالفعل، إذ كيف يمكن لدولة أن تمتلك كل هذه الثروات الطبيعية النادرة، وكل هذه الطاقات العلمية الكبيرة، أن تعجز عن اللحاق بالدول المتقدمة والقضاء على الفقر والعوز لمعظم سكانها، على قول كبير الباحثين في معهد الإستشراق ألكسي كيفا في صحيفة "NG" منذ أسبوعين. وفي حين يتفجر العالم المتقدم بالإكتشافات الجديدة والإنجازات العلمية، تقف روسيا، التي تطمح للعب دور الدولة العظمى، عاجزة عن ابتداع شيئ ما، وليس فقط "لأننا متخلفون جداً عن البلدان المتطورة، بل لأننا أيضاً لانريد ذلك ، وأولويتنا ليست العلم". ومع ذلك تجلس روسيا على أنبوب النفط "منفوخة الصدر"، ترسم للمستقبل مخططات باهرة لم تتحقق يوماً، وتهدد أعداءها بأن "تريهم ما لم يرونه"، حسب المستشرق هذا.

ليس من جديد في قصة روسيا هذه، بل هي اعتادت أن تكرر مسارها هذا وتدور على نفسها منذ مئات السنين ، إذ يقول رئيس وزرائها في مطلع القرن العشرين، الإصلاحي الكبير بيوتر ستاليبن "كل شيئ يتغير في روسيا خلال عشر سنوات ، لكن لا شيئ يتغير خلال مئتي عام". روسيا اليوم تعود مسرعة ، ليس إلى مرحلتها السوفياتية، حيث كانت تفضل تكديس الأسلحة بكميات هائلة على رفع مستوى معيشة شعبها، بل هي تعود إلى ما كانت عليه قبل ثورتها الأولى مطلع القرن العشرين.

تقول صحيفة القوميين الروس المتشددين "SP" ، أن أوساط الخبراء ترى أن اللامساواة الإجتماعية الراهنة في روسيا لا تقارن إلا بما كانت عليه في العام 1905، حيث لا يحصل نصف سكان روسيا الآن على أكثر من  17% من الدخل القومي الروسي. وتؤكد الصحيفة أن 40% من الروس لا تكفي مداخيلهم لتغطية حاجاتهم من السلع والملابس، وأن مداخيل 43% منهم هي دون 100$ في الشهر. وحيال هذه الهوة الفاصلة بين الفقراء والأغنياء، تعمل السلطة الراهنة وفق مبدأ "كل شيئ تحت سلطتنا ، طالما السلطة بأيدي جماعتنا"، وهي تمتلك وسائل وإمكانيات غير محدودة للدفاع عن دوائر النخب المقربة منها.

وتنقل الصحيفة عن عضو سابق في مجلس الدوما عن الحزب الشيوعي قوله، بأن الهدف الرئيسي لسلطة الكرملين هو السلطة نفسها، لأنها هي مصدر فائض الربح والرفاه لتلك الحفنة من المواطنين، الذين احتكروا السلطة نفسها والموارد وأجهزة الإعلام. ويقول الرجل، بأن مصير وعود بوتين بشأن الأجور والقضايا الإجتماعية، التي تعهد بها بعد انتخابه في آذار/مارس الماضي، لا يختلف عن مصير وعوده السابقة في العام 2012، بما فيها وعده بخلق 25 مليون فرصة عمل رفيعة التقنية. واللافت في هذه الوعود أنها صدرت في أيار/مايو الماضي، أي بعد الإنتخابات الرئاسية وليس قبلها، وهو يتناوب مع رئيس الحكومة دمتري مدفيدف على تطمين الشعب الروسي إلى مصير هذه الوعود، والتأكيد بأن أحوال الروس المعيشية والإجتماعية ستكون على افضل ما يرام، بل هي كذلك الآن. لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً، إذ تعمد السلطة  إلى تعزيز الأجهزة الأمنية وتشديد آلة القمع بوجه الإحتجاجات الشعبية على رفع سن التقاعد وزيادة الضريبة على القيمة المضافة، التي لا زالت تتفجر في مختلف المدن الروسية.

ويقول النائب الشيوعي هذا، أن السلطة الراهنة في روسيا تشبه سلطة فرانكو في إسبانيا، حيث تشكلت نخبة تعيد إنتاج نفسها للجيل الثاني على التوالي. وبعد أن يورد عدداً من الأمثلة حول تسلم أبناء الطبقة الحاكمة المناصب الإدارية والإقتصادية الرفيعة، يقول بأنه تجري عملية توريث أبناء النخبة من الأجهزة الأمنية، التي وصلت إلى السلطة مع وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين. وهو يرى أن المجتمع الروسي، هو مجتمع مريض، مجتمع ميت لا حراك فيه، تتفاعل في داخله عملية خطيرة من تعفن النخبة والسواد الأعظم من الشعب.

قد يظن البعض أن البرلماني الشيوعي هذا يبالغ في تصوير دقة الوضع القائم في روسيا اليوم، لكن الحزب الشيوعي هو من أشد المؤيدين للنظام القائم في عدائه للغرب وفي حروبه الخارجية، ولا يمكن اتهامه بالعداء للكرملين، بل تقتصر معارضته على الجانب الأوليغارشي من النظام. وقد وجد الحزب نفسه في صدر الإحتجاجات الشعبية الروسية على تعديل سن التقاعد، ولم يكن هو نفسه يتوقع، على قول هذا البرلماني، بأن يضع القانون المذكور السلطة والمجتمع في مواجهة بعضهما. ويرفض الرجل الحديث عن أي توافق ممكن أو تعاون مع النظام بوجه الخطر المحدق بالإستقرار السياسي في البلاد. وهو لا ينفي عنصر المفاجأة في تطور الوضع الراهن، ويرى أن المفاجأة كفيلة بتغيير الوضع السياسي والإقتصادي جذرياً، وتدمير مجمل نظام العلاقات القائم.

موقع "kasparov" المعارض يصف سنوات حكم بوتين، الممتد على مدى 19عاماً، بأنه "سنوات ضائعة". ويقول بأن روسيا قد صدرت، خلال هذه المدة، ما قيمته 4 تريليون دولار من الغاز والنفط ومشتقاته، في حين تبقى القيمة الشرائية الحقيقية للأجر المتوسط عند المستوى، الذي كانت عليه في العام 1999، ويؤكد أن مواطناً من كل عشرة من المواطنين الروس لا يكفيه أجره للطعام.

الفقر الروسي المدقع هذا، الذي يلامس الجوع، تصفه إذاعة "الحرة" الناطقة بالروسية "الفقر غير القابل للهزيمة"، وتقول أن 22% من الروس يعيشون في الفقر، ولا يسمحون لأنفسهم سوى بالحد الأدنى من السلع البسيطة. وهي تستند في أرقامها هذه إلى دراسة نشرتها منذ أيام الأكاديمية الروسية للإقتصاد، وقالت فيها بأن المهمة التي طرحها بوتين، والقاضية بتخفيض نسبة الفقر في المستقبل بنسبة 50%، هي مهمة "غير واقعية".

وفي شهادة بليغة، ناتجة عن خبرة يومية في التعامل مع هذا الفقر، تقول السيدة السورية، من أم روسية، جورجينا ديرعطاني المقيمة في موسكو "لم أر هذا القدر من الفقر حتى في سوريا". وكانت جورجينا تقيم في دمشق، قبل ان تغادر لدراسة الطب في موسكو، وترى أن المعوزين، الذين ينامون في الشارع  ولا يملكون ما يقيمون به أودهم، يشكلون "نصف موسكو".

في خريف العام المنصرم بادرت جورجينا إلى الإنخراط في فريق من المتطوعين لنصب خيمة في اكبر ساحات موسكو، مجهزة بالكراسي والطاولات وتتسع لحوالي 300 شخص، يقدمون فيها، كل يوم خميس، الطعام والملابس للمشردين في موسكو. وقد بدأ المشروع كنقطة تجميع لما يجود به المانحون من طعام وملابس، ويعمد الفريق إلى تقديم كل ذلك للجمعيات المعنية بالأمر، قبل أن يتحول إلى برنامج قائم بذاته، يتولى بنفسه توزيع العطايا على المعوزين مباشرة. وتتولى جورجينا نفسها قيادة المشروع، الذي أطلقت عليه إسم "sos – بنك المساعدة"، وتحول انهماكها فيه مع فريقها إلى عمل يومي دائم، كما ينقل عنها الموقع الروسي "Lenta.ru" في التحقيق، الذي نشره عنها الشهر المنصرم. وقد نُقلت خيمة جورجينا إلى موقع آخر، بسبب "مونديال موسكو"، ولم تفلح حتى الآن في إعادتها إلى مكانها السابق، على رغم الوعود، التي قطعتها لها سلطات المدينة.

تعلق جورجينا على عملها بالقول، أن المشردين المعوزين موجودون في كل مدن العالم ، لكن مساعدتهم لا تترك للمبادرات الشخصية، بل تتولى الدولة هذا الأمر، بعكس ما هو عليه في روسيا. وهي، إذ تختصر الأسباب البنيوية العميقة للفقر الراهن في روسيا، تطالب الروس بتغيير عقليتهم، حتى لا يترك الأبناء ذويهم لمصيرهم في الشارع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها