الثلاثاء 2018/11/27

آخر تحديث: 15:13 (بيروت)

من غلاسكو إلى سانتياغو: حفريات التضامن

الثلاثاء 2018/11/27
من غلاسكو إلى سانتياغو: حفريات التضامن
عمّال "ناي باساران"
increase حجم الخط decrease
ربما لم يلحق أذى، بأي من مفاهيم القاموس السياسي التي وصلتنا من القرن الماضي، أكثر مما أصاب مصطلح "التضامن". فالمفهوم الذي كان أحد أسس دولة الرفاه ومؤسسات الضمان الاجتماعي على المستويات المحلية، كان قد تحول تحت ضربات السياسات النيوليبرالية لميراث سياسي سيء السمعة، يرتبط في الأذهان بترهل الإدارة الحكومية وطوابير إعانات البطالة وسوء الخدمات العامة وتعطيل النمو. أما على المستوى الدولي، فإن أفكار الأممية الاشتراكية ووحدة الطبقة العاملة والمصير الواحد في النضال ضد الاستعمار ورأس المال، كانت قد ألهمت حراكات سياسية ومؤسسات قاعدية عابرة للحدود، التفت جميعها حول رايات التضامن. لكن انهيار اليوتوبيا الاشتراكية، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، انتهت بالمصطلح إلى عنوان للبلادة المقنّعة، فأصبح التعبير الأكثر شيوعاً للتضامن هو توقيع البيانات، أو تحمّل مشقّة الضغط مرة أو اثنتين لتوقيع التماس إلكتروني. وأضحى التضامن اعتذاراً عن العجز، ومساوياً لعدم الفعل. لكن، بين حين وآخر، يبدو النبش في تاريخ الفكرة المهزومة، ضرورياً، ليس من باب الحنين، بل الفهم.

ففي آذار/مارس الماضي، اختتم مهرجان غلاسكو السينمائي فعالياته بعرض الفيلم التسجيلي "ناي باساران". ولم يكن الفيلم الذي احتفت به الصحافة الإسكتلندية، بالقول إنه "على كل إسكتلندي أن يشاهده"، مجرد فيلم آخر، بل كان تقليباً في حفائر التضامن. وبفضله، استدعى البرلمان الإسكتلندي ثلاثة من أبطال الفيلم الحقيقيين لتكريمهم، ربما متأخراً جداً، بعد 45 عاماً كاملة على الأحداث.

يتتبع الفيلم أربعة من فنيي الميكانيكا الإسكتلنديين، العاملين في أحد مصانع "رولز رويس"، في شمال غربي إسكتلندا، والأحداث التي تلت قرارهم في العام 1973 بمقاطعة العمل على صيانة عدد من محركات الطائرات الحربية التشيلية. وضع بوب علامة صغيرة، كتب فيها كلمة "أسود" على المحركات، وكان الالتزام النقابي بمقاطعة ديكتاتورية بينوشيه، كافياً لأن ترقد تلك الماكينات الضخمة في العراء، لمدة أربعة أعوام كاملة. كان منطق بوب وستيورات وروبرت وجون، بسيطاً: بينوشيه كان يقتل نقابيين ويخطف عمالاً ومواطنين عاديين، "أناس مثلنا تماماً". وكانت إدارة المصنع قد حاولت نقل المحركات إلى جهة أخرى، لكن نقابة النقل تصدت لتلك المحاولات، مع عمّال المصنع. بعد شهور قليلة، وبفعل العوامل الجوية، كانت المحركات قد عُطبت تماماً، ولا فائدة منها على الإطلاق، لكن وجودها في ساحة المصنع، أصبح شاهداً على رسالة التضامن، والإدانة لوحشية النظام التشيلي. قام فنّيو ميناء "غرينوك"، الذي لا يبعد سوى ساعة من غلاسكو، باستلهام زملائهم في "رولز رويي"، وامتنعوا عن صيانة عدد من غواصات البحرية التشيلية. ودفع الضغط، الحكومة البريطانية المؤيدة لبينوشيه، إلى فرض حظر على تصدير السلاح له.

وبعد أربع سنوات من المحاولات، نجحت الحكومة التشيلية في سحب المحركات من الموقع، لا لشيء سوى لأن صورها أضحت سبباً في إحراج دولي لها، ومصدر إلهام للتشيليين في الداخل. وصلت أربع شاحنات، في صبيحة أحد الأيام من العام 1978، ونقلت المحركات إلى جهة غير معلومة. ما كشفه الفيلم، بعد أربعة عقود من الواقعة، إن نقل المحركات كان جزءاً من صفقة، أطلق فيها نظام بينوشيه في المقابل سراح عدد من السجناء السياسيين.

يحمل الفيلم دفقات ملهمة من المشاعر، خصوصاً في مشاهد تأثُّر أبطاله الحقيقيين، حين عُرضت عليهم سلسلة الأحداث التي تلت موقفهم التضامني، وتأثيرها المباشر في أناس لم يعرفوا بوجودهم في الناحية الأخرى من العالم. لكن الأكثر إلهاماً في الحفر في قصص التضامن، كان السؤال الذي وُجّه لأبطال الفيلم عما إذا كانوا سيفعلون ما فعلوه مرة أخرى اليوم. وكانت الإجابة أمينة وكاشفة: غالباً، لا. فالقوانين التي كانت تحمي الاتحادات النقابية، زالت، وثقافة التضامن العمّالي تآكلت بعد استبدال الطبقة العاملة بموظفي الياقات البيضاء في قطاع الخدمات.

تحلل مفهوم التضامن مع حلول العولمة بدلاً من الأممية، وصعود مفهوم "اقتصاد التشاركية" بوصفه بديلاً للوحدة العابرة للقارات، مؤسس على تبادل المنفعة وتوزيع أنصبتها، لا الالتزام الأخلاقي تجاه الآخرين. وما يكشفه الفيلم، بالإضافة إلى ذلك كله، هو أن غياب المؤسسة الحاضنة، أي النقابة والحزب، لا يمكن تعويضه بالشبكات المرنة، ولا بتوقيع العرائض الإلكترونية، للأسف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها