السبت 2018/11/24

آخر تحديث: 15:55 (بيروت)

لماذا دم خاشقجي أغلى من دمائنا؟

السبت 2018/11/24
لماذا دم خاشقجي أغلى من دمائنا؟
increase حجم الخط decrease

ما تزال قضية اغتيال جمال خاشقجي، مع قرب انتهاء شهرها الثاني، تثير ردود أفعال دولية، مع التلويح المستمر بأن هذا الملف لن يُقفل بسهولة. بل تحولت هذه القضية إلى ما يشبه قضية أمريكية داخلية، ووضعت ترامب في موقع المدافع عن الجريمة إزاء إعلام يرفع لواء الدفاع عن "القيم الأمريكية"، واضطرته إلى التلويح بالمليارات التي يجنيها الاقتصاد الأمريكي من الشراكة مع السعودية في اعتراف واضح بموقعه الضعيف.

بالطبع ثمة استثمار سياسي لا يخفى في القضية، فمعركة الإعلام ضد ترامب لا توفر مناسبة، وكذلك حملة خصومه الديموقراطيين ضده. وهناك استثمار سياسي إقليمي لا يغيب عنه الانقسام الخليجي، لكنه يخضع أولاً للعلاقات التركية-السعودية المتوترة على خلفية العديد من الملفات، وينبغي ألا ننسى أن الاغتيال وقع في القنصلية السعودية في تركيا، الأمر الذي يجعل من الاغتيال قضية تركية، وهذا أيضاً ما يمنح القضية برمتها بعداً مختلفاً عما لو حدثت ضمن الأراضي السعودية، حتى إذا لم نأخذ بشاعة تنفيذ الاغتيال بالحسبان.

منذ حدوث عملية الاغتيال حتى الآن وقع الكثير من القتلى في سوريا، وهناك من قُتلوا تحت التعذيب وربما قطّعت جثثهم قبل إحراقها في سوريا، إلا أن أحداً لم يلتفت إلى مأساتهم. الإعلام الأمريكي نفسه الذي يدافع عن القيم الأمريكية لم يفرد مساحة مماثلة لهم، لا الآن ولا قبل سنوات ولا لملف "سيزار" الذي قدّم شهادته في الكونغرس، بينما ازداد فجأة اهتمام هذا الإعلام بالمأساة اليمنية المستمرة منذ سنوات، فقط من أجل مزيد من الضغط على ولي العهد السعودي الذي يُعتقد أنه مسؤول عن اغتيال خاشقجي.

ذلك بالتأكيد يعطي إشارة سلبية لملايين المتضررين من الانتهاكات في سوريا وعموم منطقتنا، ولا نستطيع استبعاد مشاعر القهر التي تنتاب قسم منهم وهم يرون هذا الانشغال بقضية شخص واحد في حين يتوجب بقاء مآسيهم في الظل، ما يعني استمرارها بلا محاسبة القتلة والمجرمين أدنى حساب. بالتعبير البسيط سيبدو دم خاشقجي أغلى من دماء مئات الآلاف، مثلما بدا دم رفيق الحريري يوماً ما أغلى من دماء الكثيرين، وستعزز هذه المقارنة الإحساس بالقهر جراء انعدام العدالة في العالم كله.

المقارنة لن تأتي بالضرورة من أناس لا يرون قضية خاشقجي جديرة بالاهتمام، أو أناس لا يشعرون بتضامن حقيقي معه ومع أسرته، وإنما أيضاً من أناس يسعون إلى ألا تكون العدالة حبيسة الاعتبارات السياسية فحسب. الآثار السلبية ستكون حاضرة في بيئة مهيأة سلفاً، فصورة الغرب وانتقائيته في التعامل مع الانتهاكات والجرائم موجودة سلفاً في الأذهان، وفي ظل قيادات غربية سابقة أكثر حصافة من الحالية. بموجب هذه التصورات لا يأتي الغرب بجديد، مثلما هذه الصورة عنه ليست بالجديدة، فنحن قد خبرنا الأخيرة جيداً من خلال خطاب الممانعة وخبرناها أيضاً من خلال خطابات الحركات الإسلامية، وإذا توخينا الدقة فقد خبرناها في العقود الأخيرة من خلال الخطاب الإسلامي حصراً بعدما تسيدت طهران تيار الممانعة.

مع الاحتفاظ بالأحقية الدائمة لمطلب العدالة، يجدر بنا الانتباه إلى المبررات التي تجعل إثارة قضية خاشقجي ممكنة على هذا النحو، بخلاف العجز المعلن تجاه مآسٍ أضخم. لعلنا نستذكر في هذا السياق رد فعل وزير خارجية بشار، عندما قرر الاتحاد الأوروبي سحب سفرائه من دمشق، فخرج الأول إلى الإعلام قائلاً: لقد محونا أوروبا من الخريطة. الرد بهذه الصفاقة ليس بلا مبررات أيضاً، فالقطيعة من جانب الغرب ليست ذات كلفة عالية، وفي بعض جوانبها لا تزيد عن الضغط المعنوي. إذا أخذنا مثلاً حجم التبادل التجاري بين سلطة الأسد والغرب كله، وفوقه حجم الأرصدة المتبقي لعائلة الأسد في البنوك الغربية، فهي جميعاً لا تبلغ سوى نسبة بسيطة من حجم التبادل والمصالح مع موسكو وطهران.

بالمقارنة هناك حجم هائل من المصالح المتبادلة بين السعودية والغرب، مثلما هو الحال لعموم دول الخليج، ما يجعل من الضغوط الغربية ذات وزن ومعنى. لننسَ مزاعم ترامب حول خسارة 110 مليارات دولار تخص صفقة أسلحة، لأن الواقع يتعدى تلك الصفقة إلى اعتماد أمن الخليج على المظلة الأمريكية منذ عقود، ما يمنح أية إدارة أمريكية هامشاً واسعاً للتحرك والضغط، وحتى لإحداث تغييرات داخل بعض البلدان. هذه الوضعية لا تستلزم أن توجه الولايات المتحدة أساطيلها لإحداث تغيير بالقوة، إذ يكفي استخدام القوة الناعمة لتصل الرسالة كما يجب، وعندما يهاجم الإعلام الأمريكي ترامب فهو يفعل ضمن معرفته بكل ما سبق.

لنقل أن لدينا مستويين من التخاذل بمنطق العدالة؛ عدم التدخل المباشر لحل مأساة مثل مأساة السوريين، رغم قدرة الغرب عسكرياً على فعل ذلك، وعدم استخدام ما هو متاح من وسائل ضغط غير عسكرية من أجل قضية خاشقجي. بمعيار السياسة سنكون أمام واقع مغاير، فالصحافة الأمريكية التي تطالب بالضغط من أجل خاشقجي تدرك أوراق القوة "غير العسكرية" المتاحة، بينما لا تخرج عن مزاج أمريكي غالب فيما يخص عدم الرغبة في خوض مغامرات عسكرية جديدة. العدالة ليست هي المعيار بتاتاً، والقيم الأمريكية التي يُقصد بها قيم الحرية هي محل غيرة من قبل تلك الصحافة عندما يتعلق الأمر بحليف وثيق قد يشكل سلوكه وصمة لأمريكا، أما أشنع الانتهاكات من أطراف لا تقترب من شبهة الحليف فستبدو شأناً اعتيادياً، بخاصة عندما يجهر أصحابها بعدائهم لقيم الحرية والديموقراطية.

لا يدخل في باب تبرير التخاذل الغربي أن نستذكر القطيعة مع الغرب من قبل بلداننا التي حدثت فيها أوسع وأفظع الانتهاكات، فالأنظمة الحاكمة اكتفت بمنسوب متدنٍّ من العلاقة معه خوفاً من قيمه. على الصعيد الشعبي؛ تتعدد الاعتبارات التي جعلت من الوجدان العام معادياً للغرب، وفي كل الأحوال كان هذا الوجدان مسانداً قوياً للأنظمة التي تخشى قيم الغرب، وتلوّح له بذاك العداء الشعبي كبديل أسوأ عنها. في المحصلة بقيت البلدان المعنية خارج نطاق المصالح الغربية وخارج اهتماماته. لقد انقلب المزاج العام لمناسبة ثورات الربيع العربي، ربما مرغماً بحكم الضرورة لا غير، كي يطلب غوث من كان يصنّفه إلى وقت قريب كعدو استعماري، ويصنّف حلفاءه في المنطقة كقوى رجعية. هذا أحد الأوجه التي تستحق التفكير، حتى ونحن ندين النخبة السياسية الغربية لأنها تسترخص دماءنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها