السبت 2018/11/17

آخر تحديث: 11:14 (بيروت)

بطاقة صفراء لماكرون

السبت 2018/11/17
بطاقة صفراء لماكرون
increase حجم الخط decrease

يُفترض أن يكون اليوم "السبت" يوم غضب فرنسي من سياسات الرئيس ماكرون، بالتعبير الفرنسي الدارج سيكون هناك "بلوك" يهدد بشلّ حركة السير في عموم فرنسا، بما يعنيه ذلك من التأثير على عموم النشاط الاقتصادي في يوم هو الأكثر نشاطاً لجهة التسوق والترفيه. البلوك سيصنعه متظاهرون يلبسون السترات الصفراء "الفوسفورية"، وهي السترات التي تُستخدم لهذا الغرض أثناء حوادث السير، وباتت اليوم رمزاً لتحرك شعبي تفيد استطلاعات الرأي بأنه يحظى بدعم ثلثي الفرنسيين.

نظرياً، هذا التحرك ضد "ضريبة الكربون" الجديدة التي ستُطبق مما سيزيد أسعار الوقود، مع التأثير المتوقع أولاً على كلفة المواصلات وعلى تكاليف المنتجات الزراعية، ومن ثم تأثيره العام على الأسعار. إلا أن الحركة التي تتصدرها هذه القضية تعبّر عن نقمة أوسع، ففي الثاني من الشهر الحالي مثلاً انضم إليها الكوميدي المعروف أنتوني جوبير بيوتيوب نال فوراً مئتي ألف مشاهدة يقول فيه: "ليست أسعار الوقود وحدها التي ارتفعت" و"نريد أن ندفع أقل". نسبة المشاهدة هذه لا تتعلق بمستوى النجومية، فالشهرة ستخطفها جاكلين مورو، المرأة التي ستنشر على صفحتها في فايسبوك فيديو بعنوان "coup de gueule" يستقطب أكثر من ستة ملايين مشاهدة، وعنوان الفيديو هو تعبير مجازي بمعنى الغضب الشديد. مع التنويه بأن الحركة بدأت بطيئة وخجولة منذ أواخر شهر أيار مع بريسيليا لودوسكي، إلا أن العريضة التي نشرتها لودوسكي على change.org تقدمت منذ منتصف شهر تشرين الأول، لتنال خلال شهر واحد أكثر من 800 ألف توقيع.

استخدام القمصان الصفراء كرمز للتحرك ليس جديداً على الفرنسيين، ففي عام 1675 استخدم المتظاهرون في بريتاني القبعات الحمراء رمزاً لتحركهم ضد الضرائب، ليعود إلى استخدامها رمزاً في عام 2013 متظاهرون ضد ضريبة بيئية، وفي ثلاثينات القرن الماضي اعتمدت لجان زراعية رمز القمصان الخضراء داعيةً إلى الإضراب الضريبي. وهي جميعاً كما نرى حركات ضد الارتفاع الضريبي، إلا أن حركة اليوم تتميز عن سابقاتها باتساعها المتسارع، وباعتماد وسائل التواصل الاجتماعي من أجل التعبئة، فضلاً عن انطلاقها خارج الأطر السياسية والنقابية المعتادة.

ماكرون سارع إلى وصف المتظاهرين بأنهم "أناس يريدون إيقاف كل شيء". بحسّها الشعبوي، سارعت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين إلى دعم التحرك، ومن ثم أعلن زعيم اليسار الراديكالي ميلانشون دعمه له، كذلك فعل الحزب الاشتراكي. أي أن القوى السياسية، التي فوجئت جميعاً بالتحرك، وجدت من الأفضل مباركته وركوب موجته. بالطبع يجمع هذه القوى معارضتها ماكرون، على يمينه أو يساره، لكنها لم تصحُ بعد من خسارة الانتخابات الرئاسية، بمعنى أن أيّاً منها لم يشهد تطوراً دراماتيكياً في الخطاب السياسي، أو بروز قيادات جديدة ذات ديناميكية مختلفة.

رد فعل ماكرون لا يخرج عن مألوف شخصيته في إلقاء اللوم على الفرنسيين، ففي بداية عهده وصف العاطلين عن العمل حرفياً بأنهم "الناس الذين هم لا شيء"، وفي زيارة له إلى هولندا امتدح دأب ونشاط الهولنديين ملمّحاً إلى ما يعتبره ميلاً فرنسياً إلى الكسل. ومؤخراً، لمناسبة مئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى، عارض الوجدان الفرنسي بمحاولة رد جزء من الاعتبار للماريشال بيتان لدوره في الحرب العالمية الأولى، والأخير لا يوصم فقط برئاسته العميلة للنازية في الحرب العالمية الثانية وإنما أيضاً بمسؤوليته عن معسكرات تجميع اليهود الفرنسيين وإرسالهم إلى المحارق النازية.

في الجانب الاقتصادي المُسبِّب للتحرك الحالي، يمكن وصف سياسة ماكرون حتى الآن بأنها سياسة اكتنازية في المقام الأول، من خلال رفع الضرائب التي تمس الشرائح الأوسع "أي المتوسطة والفقيرة"، ومن خلال التخفيض في الإنفاق الاجتماعي الذي يمس الشرائح الأفقر. هذه السياسة وإن كانت تعني توفيراً في الإنفاق العام، وزيادة في الواردات، إلا أن الفرنسيين لم يلمسوا أية آثار إيجابية لها، فارتفاع الضرائب وتوسعها لم يؤديا مثلاً إلى ارتفاع مقابل في مستوى الخدمات العامة، وهكذا بات يُنظر إليها كرسوم أكثر مما هي ضرائب لها نفع عام.

الجدير بالذكر أن ماكرون قدّم نفسه كصاحب مشروع إصلاحي شامل، مع إقرار الجميع بأن الاقتصاد الفرنسي بحاجة ماسة إلى نقلة ما تخرجه من تعثره. لكن لا يمكن مثلاً فهم الإصلاح في قطاع المشافي عندما يتضمن تقليصاً في الخدمات الصحية المتعلقة بالأمومة، ولا يمكن فهم الإصلاح في القضاء إذا كانت واجهته إغلاق بعض المحاكم، فمثل هذه الإجراءات تعبّر أولاً عن ضغط الإنفاق ولا يُرى فيها تطويراً هيكلياً يتعلق بالجدوى. في السياق نفسه سيُنظر إلى إلغاء الدوام يوم الأربعاء للمدارس الابتدائية والتحضيرية بعد أن كان لنصف يوم، فالغاية هي تقليل النفقات بخاصة لتزامن هذا الإجراء مع تقليص عدد العاملين في مدارس الأنشطة البديلة وتقليص الأنشطة فيها. جدير بالذكر عدم وجود رضا أصلاً عن مستوى التعليم، في بلد يفخر بأن التعليم فيه إلزامي ومجاني منذ عام 1881.

بالمقارنة، كان الاقتصاد الفرنسي قد شهد نمواً جيداً في السنة السابقة على انتخاب ماكرون، بفضل الإعفاءات الضريبية وزيادة الإنفاق العام في عهد سلفه فرانسوا أولاند. النتيجة آنذاك انعكست عجزاً لا يخلو من الهدر، بحسب تقرير مراقب الحسابات العام، واسترجاع ذلك الواقع يشير فقط إلى أن زيادة القدرة الشرائية للشرائح الأوسع يترك أثراً مباشراً في ارتفاع معدّل الاستهلاك وقطاعات الإنتاج المرتبطة به. بينما لا يُلحظ اليوم، في عهد ماكرون، أثر لسياسته التقشفية على زيادة الاستثمار وخلق فرص العمل رغم محاباتها لأصحاب الرساميل الضخمة.

في الواقع، ثمة اقتصاد في حالة ركود، مع معدل بطالة يُعد بين المعدلات المرتفعة أوروبياً. فوق ذلك ترهق الضرائب المباشرة وغير المباشرة الشرائح المتوسطة والفقيرة، من الضرائب على الاستهلاك إلى الرسوم المرتفعة لاستخدام الطرقات السريعة، وصولاً إلى "ضريبة التلفزيون" السنوية التي لم يعد لها وجود في غالبية البلدان. مشكلة ماكرون أنه قدّم نفسه خبير الاقتصاد ورجل اللحظة لحل مشكلات قديمة، بعضها ذو طبيعية بنيوية يتطلب إعادة هيكلة، مع مراعاة الوضع الفرنسي الذي لا يسمح بالتصرف على منوال ما فعلت مارغريت تاتشر في إنكلترا.

فشلُ اليمين واليسار التقليديين في حل تلك المشاكل، وتضاؤل الفوارق بينهما، هو ما أتى بماكرون إلى السلطة. وفشله في الحل يُنذر بأن ولايته الأولى ستكون الأخيرة، وهذه قناعة تتنامى في الأوساط الفرنسية. تحرك "السترات الصفراء" ربما يكون أفضل تعبير عن الغضب المتزايد، بخاصة بعد امتصاص أشهر الإضرابات التي سبقت الصيف الماضي، وكان شعارها الأبرز "ماكرون: فرنسا ليست للبيع". النقابات التي كانت وراء الإضرابات السابقة بدت غائبة تماماً عن التحضير ليوم الغضب الحالي، وتلك علامة ذات دلالة بليغة في بلد يشهد تقليدياً قوة نقابية أثبتت حضورها في العديد من المناسبات.

لا يملك أصحاب السترات الصفراء زعيماً أو متحدثاً رسمياً باسمهم، وانطلاق التحرك من منصات التواصل الاجتماعي قد لا يخلو من إشارات تقلق كافة القوى التقليدية بما فيها النقابات التي ربما يحرجها التحرك الواسع خارج نطاقها. واحد من مصادر القلق قد يكون التخوف من استغلال اليمين واليسار الشعبويين لركوب هذه الموجة، في حين أن التخوف ينبغي أن ينطلق من أن فرنسا واقعة في "بلوك"، وبخلاف اتهام ماكرون للمتظاهرين فإن "بلوك 17 نوفمبر" هو ما يمثّل الحيوية الفرنسية المفتقدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها