السبت 2018/11/17

آخر تحديث: 06:49 (بيروت)

ملحمة "إخوة الحفيانة"

السبت 2018/11/17
ملحمة "إخوة الحفيانة"
increase حجم الخط decrease

عثر العلماء على رقيم مكتوب باللغة الهيروغليفية، يحكي واقعة تاريخية وقعت في عصر الملوك الرعاة، ووجدوا ألواحاً طينية مشويّة، عليها نفس القصة مكتوبة باللغة المسمارية في حوض الفرات ومملكة ماري، ورُقماً بلغة المسند للقصة ذاتها في منطقة الأحقاف، ولوحاً رابعاً بلغة البراغي في أوغاريت، التي ما تزال تستخدم لغة البراغي في حلبة السياسة، وهي غير لغة علوم الفورتران والبيسيك وإن كانت أعقد منها.

وبعد أن درس العلماء الرموز والرسوم وصلوا إلى "طق" هذا البرغي:

يُروى أن قائداً للمخابرات لقبه "أخو الحفيانة" كان عديم الشرف، وخائناً، الخيانة تجري في جسمه مجرى الدم، وسبب لقبه، أنهم وجدوا بنتاً قدّروا أنها أخت قائد جهاز "عيون الضفادع"( هكذا ترجموا المصطلح الهيروغليفي) حافيةً في الصور، وتمشي بجانبه على استحياء على الأرض المباركة، وكانت العبادة في ذلك الوقت الغابر توجب على المتعبدين التّحفي في حضرة الآلهة على التراب، وفي المعبد أيضاً.  

قصد أخو الحفيانة كبير العرّافين في يوم نحس مستمر، وكشف له عن رغبته في أن يبلغ ذروة الشرف المصمد ويصير عزيزاً للبلاد، وقد وقع اختيار كهنة البلاد وعرافيها وحكمائها على أحد العلماء، لقبه ابن النخلة، وسبب اللقب هو أنه لا يظهر في اللغة الهيروغليفية، إلا بجانب نخلة عالية، وهو عالم، فصيح، شجاع، عادل، صادق، كريم.. اقترب يوم توليته العرش، فقصد أخو الحفيانة كبير العرافين، وقال: لقد رأيت في الرؤيا أني أطير بجناحين، فما تعبير الرؤيا يا معالي العرّاف.

نظر معالي العرّاف إلى وجه قائد جهاز "عيون الضفادع “، وكان اسم الجهاز كما قدّر العلماء مقتبساً من عيون الضفادع المنفرجة التي تراقب ما حولها، وترى حركة الرعايا من وراء الحيطان، وحدّق في عينيه اللتين تشبهان عيني الجرذ، وقال في نفسه: كيف يا أخو الحفيانة؟

وهنا نعيد التوكيد للقارئ أن خطاب "أخو الحفيانة" خطاب يأخذ بمجامع آداب الملوك، ويعادل قول:" يا صاحب السمو"، فلم تكن دلالة هذا اللقب كما هي هذه الأيام سيئة، وهاجية، فبعض التعابير تفقد معناها الاصطلاحي، وبعضها ينقلب إلى نقيضه.

كاد معالي العرّاف أن يقول له: أنت عديم الشرف، شكلك مثل أست القرد، أنت تشبه الصوص الذي نسيت أمه إطعامه، وخرج من البيضة مبلولاً بمخاط الزلال، انظر إلى وجهك في المرآة، وكأن زوجتك ضربتك بجزمة قديمة فخلّفت فيه كدمة أبدية، وتتصرف مثل اللص الذي يخشى أن يُمسَك بالجرم المشهود، ونطقك فاسد فأنت تتأتئ، أنت آخر واحد في هذه الأمة يستحق أن يتولى منصباً.

وكاد أن يبصق عليه، لولا أنها رؤيا وجدها العرّاف رؤيا حق.

وضع أخو الحفيانة يده في نطاق كبير العرافين: أرجوك يا كبير العرافين.. سأطمرك بالذهب.

أحسّ كبير العرافين بالخوف، فأخو الحفيانة أخو حفيانة حقاً، فقال: سأخبرك بتعبير الرؤيا يا "أخو الحفيانة".

ولم يعرف المؤرخون سبب ميل كبير العرّافين إلى هذا المعفّن، لعله فرعوني الأصل ويكره الملوك الرعاة. أو أن كبير العرافين كان يشم رائحة حركة توحيد الآلهة السياسية في أخناتون الشمس، وكان يخشى أن يفقد مجده الزائل.

قال قائد "عيون الضفادع": وما هي؟ وأخرج خنجره وقال: هل أقتل ابن النخلة؟

قال كبير العرافين: هناك طريقتان يا أخو الحفيانة: الأولى: وهي أن تحافظ على شرف المهنة، وتعمل الصالحات وتتصدق على الفقراء وتصدق في القول والفعل، وتدافع عن الوطن ضد الأعداء والجواسيس، وتزهد في متاع الدنيا الزائل فتصير أشرف الناس وفي حالتك مستحيلة، لأنك عسكري.

قال أخو الحفيانة: هذه لا تناسبني يا كبير العرافين وطريقها طويل وشاق، فما هي الطريقة الثانية السريعة؟

قال العراف: الطريقة، هي أن تخطف ملك الرعاة ابن النخلة وتعتقله في سجن سري وتعرضه للتعذيب الشديد، إن علوم العرافة تقول: إن آلام وصرخات الشرفاء تجعل عديم الشرف ومقتول الضمير يتشرف بسماعها، الروح تخرج مقطّرة في آهات التعذيب، ألم تسمع متألماً يقول: روحي تطلع من الألم. إن الإنسان لا يستطيع صيد حوت وأكله إلا بعد تقطيعه إلى آلاف القطع لكبر جسمه، وكذلك الروح البشرية عظيمة مثل الحوت، يجب تقطيعها بالتعذيب إلى آلاف القطع، وعندي مصيدة للأرواح تشبه ماكينة الفوتوكوبي، ناسخة للأرواح، تصطاد بها أرواح المعذبين الشرفاء الأبرياء وتضمها إلى بنك روحك فتزداد شرفاً وتطول مدخرات عمرك سنين، اعتقِلْ وعذّبْ الشرفاء والحكماء تصير شريفاً، لأن هؤلاء إن ظلوا أحياء أو أحراراً، فسيراقبونك وسيكشفونك وسيحاربونك. بعد اعتقالهم وإسكاتهم، وجعلهم عبرة، سينتخبك الكهنة مذعورين ويجعلونك مكانه ملكاً للبلاد، وتنتزع التاج من ابن النخلة. ولا تنس كي تحافظ على الشرف، قرّب الأنذال والفاسدين وأبناء اللخناء، ومكّنهم في الأرض، بعدها ستعلو وتشرف وتسمو. والخطوة الثالثة، أفسد الصالحين والشرفاء، وعذّبهم وستزداد شرفاً، هذه هي الوصفة السحرية يا معالي أخو الحفيانة.

قال أخو الحفيانة: وحق الآلهة، هذه وصفة سهلة، وهي هواي ورغبتي.

قالت تأويلات ما تحت السطور: وكان يحسد ابن النخلة ويرغب في شرب دمه.

سأل أخو الحفيانة الذي كان عنده حقد على المجتمع من أصله الوضيع العرة، وتُظهر بعض الرُقُم أنه من أقلية قليلة حاقدة، مجهولة. الأقليات لا تصلح لحكم الأكثريات، إلا إذا ذابت فيها، وتُبين الرسوم أنه كان يعتقد بتناسخ الأرواح، قال وهو يفرك يديه: ونساء المملكة أيها العراف؟

قال كبير العراف: سيقعن في حبك وغرامك وكأنك جورج كلوني، ستغدو دون جوان البلاد كلها.

 خرج أخو الحفيانة وركب عربته الملكية التي يجرها ثور أصيل يعيش على الجوز واللوز والزبيب، وقصد مع مجموعة من الجند منزل ابن النخلة، وكان مع مجلس الحكماء يسمرون ويتدارسون أوضاع البلاد، ويضعون الخطط لعلاجها وينوون حلها حال تسنمه عرش البلاد بعد يومين.

نهض ابن النخلة ورحب بـ"أخو الحفيانة" والفرقة معه، وعانقهم وأجلسهم وأمر لهم بالموائد، وتظهر الرسوم الهيروغليفية أن أخو الحفيانة غدر بابن النخلة ومجلس الكهنة والحكماء واعتقلهم جميعاً، وفرّقهم في سجون لا يعلم بها أحد، بتهمة التخابر مع الجزيرة، فذُعر الشعب وخرجوا جميعاً يهتفون باسم "أخو الحفيانة".

تولى أخو الحفيانة منصب عزيز البلاد، ورسمه الرسامون على المعابد والمدافن الحجرية والأهرامات، بجانب الشمس، تجر عربته الأسود، ووقعت جميع نساء البلاد في حبه وغرامه، الفنانات والعاهرات والشريفات، كلهن كنَّ يرسلن له رسائل على الواتساب الهيروغليفي، ويتمنين لقاءه في غرفة سرية، بعيداً عن الأعين وشرطة الآداب، التي كانت تدير المواخير سرا ليس طمعا في عرق النساء بل من أجل الافساد.

حرص أخو الحفيانة على أمر واحد، هو الدوام على العقار السحري، وهو وجبة يومية من التعذيب، كما نصحه كبير العرافين يزداد شرفاً ورفعة وسمواً. وارتفعت هيبته حتى إن نقيق الضفادع صار مرعباً أكثر من عواء الذئاب.

كان يستمتع كل صباح بصرخات وآلام الشرفاء تحت التعذيب، مثل السابحين على الشواطئ الذين يتمتعون بأشعة الشمس من أجل فيتامين دال، الجلادون كانوا يجلدون الشرفاء في السجون ويقطعون لحومهم، وكلما تألموا أكثر، ازداد الأنذال والوضعاء شرفاً وانتشوا، وكانوا يحرصون على إبقائهم على قيد الحياة، مثل النمال التي تربّي خنافس المن والسلوى، فهم سبب في سموهم وشرفهم.

تغيرت أحوال البلاد كما تُظهر الرسوم التي رسمها مؤرخ شريف، عظام الموتى تبيّن أنّ الشعب مات من فقر الدم والجوع والمهانة والديون، تخبرنا الرسوم أنه ما إن يشم أحد أعضاء جهاز أعين الضفادع، أو المتطوعين الشراغيف، رائحة مواطن شريف حتى يبادروا إلى نتفه حياً، والتقرب بدمه إلى السلطات الحاكمة. وكانوا يصابون بالذعر إذا سمعوا برجل قام بفعل شريف مثل إغاثة ملهوف أو إكرام ضيف. وكان من الكفر أن يقول أحد ما: واحد زائد واحد يساوي اثنين، الجواب الصحيح: هو صفر. وكانوا يغضبون أشد الغضب إذا سمعوا بمواطن يرفع أكف الضراعة للإلهة كي تنصره، ويخافون أن تجيب الإلهة الدعاء. حتى النهر جف من القهر، وكان أخو الحفيانة يزداد شرفاً، لأنه المصدر الوحيد للغذاء والأمن والسلامة، وازدادت حفاوة الملوك الجيران بأخي الحفيانة، لأنه جعل شعباً كريماً، يعيش مثل العبيد ويلجأ إلى بلادهم طالباً الفتات.

دانت البلاد والعباد، وتحولت الحرائر إلى عاهرات يأكلن بأثدائهن من شدة الجوع، وارتفع شرف "أخو الحفيانة" طبقاً للمثل القائل: الأعور بين العميان ملك، والعرصة بين الديوثين شريف، حتى أمسى كأنه كائن من كوكب بعيد، ثم كان أن أخا الحفيانة رأى رؤيا بأنه يطير بأربعة أجنحة، فجاء إلى العراف وسأله عن تعبيرها، فأدرك كبير العرافين أنه مقتول، فاستعطفه، لكن قلب "أخو الحفيانة" كان قد قسا حتى صار كالحجر أو أشد قسوة، فأمر بحبسه ولفق له تهمة الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين يخلطون الدين بالسياسة.

ولما أيقن كبير العرافين بدنوّ أجله، نصح أخا الحفيانة نصيحة أخيرة بقتل ابن النخلة في يوم الخميس القادم، وإن لم يقتله فإن الإرهاصات والنبوءات والنجوم والرمل والبحص كلها تقول: إن ابن النخلة سيعود ملكاً للبلاد، ويجب أن يُعدم أمام أعين الناس في ساعة تعامد الشمس مع الأرض من غير ظل. وقال: إنه ينصحه بهذا لأن ابن النخلة عدوّ لهما، فهو من الملوك الرعاة.

تخلص أخو الحفيانة من كبير العرافين، وقطع رأسه، كي يضمن عدم ذيوع  سرّ وصوله إلى ذروة الشرف، واصطاد روحه في مصيدة الأرواح من غير تعذيب، وأوعز للقضاة، فاتهموا ابن النخلة ومجلس الحكماء بالخيانة العظمى، وهي محاولة الاستيلاء على الحكم بأساليب مبتدعة مستجلبة من الغرب، غير التي عرفها الأقدمون، وهو يظن كل الظن أن صرخات ابن النخلة ومجلس الحكماء على المقصلة ستمنحه الخلود والشرف الأبدي، وكان الإعدام يجري بإطعام  المحكوم عليهم بالموت للتماسيح المقدسة، عرّوا ابن النخلة من ثيابه، وكان قد نحل كثيراً، فظهرت عظامه، وأشفقت عليه الناس وبكوا.

ثم كان المشهد الأخير، مشهد الإعدام: دفع الجلاد بابن النخلة إلى البحيرة المقدسة، وقذف به للتماسيح التي تناهبته خلال لحظات، فهاجت الناس وماجت، وهجمت على القصر الملكي واجتاحت العرش، وقبضت على "أخو الحفيانة" وانتزعت روحه ورمت به في المكان الذي يستحقه وهو: مزبلة التاريخ، لكن كانت المفاجأة أنه ظهر بشخصية ثانية، لأن عنده عشرات الشخصيات والأرواح في بنك الأرواح.

 أنهى مؤولو النص الهيروغليفي تأويل رسومه بهذه الملاحظة: عزيزنا القارئ؛ لا بد أنك سمعت بسرقة الأعضاء البشرية من المرضى بالمفرّق، وبالجملة من السجناء السياسيين المقتولين تحت التعذيب، أو الذين ينتظرون نعمة الموت، فاعلم أن الأعضاء البشرية مثل قرنيات العيون، والكلى، والنطاف، والأرحام وغيرها، هي أدنى قيمة من سرقة الأرواح البشرية، وأنك إذا رأيت رئيساً أو ملكاً أمَّ قوماً وهم له كارهون، فثق أنه قد سرق آلاف الأرواح البشرية مقطّرةَ في السجون والمعتقلات تحت التعذيب، وما سبب فشل آلاف المحاولات لاغتيال "أخو الحفيانة" إلا لأنه يعيش بآلاف الأرواح التي اغتصبها من المعارضين وأبناء الشعب، وعلقها في خزانته مثل القمصان. وقالوا: كانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب