الأربعاء 2018/11/14

آخر تحديث: 07:54 (بيروت)

حروب أميركا الخاصة

الأربعاء 2018/11/14
حروب أميركا الخاصة
Getty ©
increase حجم الخط decrease
بالنسبة لمعظم الأميركيين، فإن الحرب العالمية الأولى موجودة في عالم الأساطير والتاريخ البعيد. لا أحد من الذين عايشوها ما زالوا على قيد الحياة، والحرب لم تحدث ندوباً على جسد  الولايات المتحدة ولم تغيّر المشهد السياسي فيها كما فعلت في أوروبا والشرق الأوسط. آثار الحرب قليلة في أميركا. في عام 1918، كانت "الحرب الكبرى" في الذاكرة الأميركية هي الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، وهي حربنا الأكثر دموية وكلفة حتى الآن، ولا تزال تتردد في السياسة الحالية. شاركت الولايات المتحدة فقط في نصف سنوات الحرب العالمية الأولى الشنيعة، وهذا لم يشر إلى إغلاق فصل بالنسبة لأميركا، بل كان بداية لدور الولايات المتحدة كقوة كبرى لمواجهتها على المسرح العالمي.
كانت مشاهدة الذكرى المئوية للهدنة على شاشة التلفزيون صباح الأحد مؤثرة ومقلقة. الحفل المهيب استحضر التأثير المروع للقرن العشرين. حربان عالميتان، الملايين والملايين قُتلوا وشردوا، ودمرت إمبراطوريات، وولدت أمم جديدة. تمت تسمية "الحرب العالمية الأولى" على هذا النحو لأن الحرب الأسوأ والأوسع نطاقاً قد التهمت عشرات الملايين من الأرواح في أنحاء أوروبا وآسيا بعد عشرين عاماً. كان من المفترض أن تشير هدنة العام 1918 إلى نهاية حرب "لإنهاء جميع الحروب"، نظراً لدور التكنولوجيا وأنظمة الأسلحة الجديدة ومعدلات الموت المروعة للمدنيين. استمرت نتائج الحرب العالمية الأولى في إلحاق الضرر وتقويض الاقتصادات والحياة والهيئات. أعطتنا الحرب أولى حالات اضطراب ما بعد الصدمة، المعروفة باسم "الارتجاج الدماغي" منذ قرن مضى.
معاهدة فرساي في عام 1919 أشعلت الجمر الذي سيثور في وقت لاحق في جحيم الحرب العالمية الثانية. وفرض الحلفاء عقوبات وأوضاعاً لا ترحم على ألمانيا، لم ينظر إليها على أنها خاسرة في الحرب فحسب، وإنما كمحرض لها. كان السكان المعدمون والمدمّرون والمذلون عُرضةً بشكل كبير للهذيان القومي لأدولف هتلر، ربما بالمقارنة مع الطرق التي ما زال الناس في جنوب الولايات المتحدة قادرين على اتباعها ودعمهم للوطنية البيضاء والمشاعر القومية حتى اليوم، بعد 160 عاماً من نهاية الحرب الأهلية.
في عام 1918، كان الأميركيون أبرياء نسبياً في الشؤون العالمية، وكان دورهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية موضع تقدير وتم الثناء عليه في جميع أنحاء العالم. بالنسبة إلى أي شخص بلغ سن الرشد في حقبة فييتنام وما بعدها، من الصعب تخيل عصر اعتبر فيه الجيش الأميركي قوة للخير بدلاً من كونه آلة للتوسع الإمبريالي. في الوقت الحاضر، لا يزال الجيش الأميركي متورطاً في أطول حرب أميركية في التاريخ في أفغانستان، وهي حرب لا يفكر فيها أحد ما لم يفقد أحد أفراد عائلته هناك في عصر جيش من المتعاقدين. معظم الأميركيين ليس لديهم علاقة شخصية أو قلق مع أفغانستان. لقد تغير دور الحرب ومكان الجيش في المجتمع الأميركي بشكل كبير خلال السنوات الخمسين الماضية.
بعد أن عشت في فلسطين ولبنان خلال معظم التسعينيات، حصلت على وجهة نظر مختلفة جداً عن الحرب العالمية الأولى وتأثيرها على الشرق الأوسط. لقد أرسل سقوط الإمبراطورية العثمانية موجات زلزالية من التغيير عبر المنطقة ما زالت تتردد أصداؤها. 1918 تميزت بالإبادة الجماعية للأرمن، بداية الحكم الإلزامي الأوروبي في بلاد الشام، وتحويل أرض واسعة ومعقدة إلى دول جديدة، غالباً ما تكون مصطنعة. لقد تم القضاء على مصير الفلسطينيين، وتم ضمان استقلال لبنان، وكان الاقتصاد الإقليمي الجديد الذي يهيمن عليه النفط على وشك البدء.
ليس من الصعب القول بأن الحرب العالمية الأولى ولدت المزيد من الحروب ليس فقط في أوروبا، بل في الشرق الأوسط أيضاً. يمكن اعتبار غزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في عام 2003 ومحو الحدود بين سوريا والعراق على مدى السنوات السبع الماضية مجرد أقساط في مأساة الحرب العالمية الأولى للشعب العربي. وباستثناء المؤرخين والحرفيين، فإن القليل من الأميركيين لديهم أي فهم لتأثير الحرب العالمية الأولى على الشرق الأوسط. وعلى العكس، فهم يفهمون المنطقة في سياق الحرب العالمية الثانية، ولا سيما إقامة إسرائيل بعد أهوال الهولوكوست، وغالبا ما يتجاهلون الظلم الذي يفرض على الشعب الفلسطيني.
لذلك كان من المؤلم أن نسمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلخص حفل الهدنة في قوس النصر في باريس بإدانة القومية. وبصفتي أميركية مرعوبة من إدارة دونالد ترامب، شعرت بالسعادة لرؤية تعابير وجه ترامب القاسية، حين أعلن ماكرون أن "القومية هي عكس الوطنية" وحذر من عودة ظهورها القبيح في جميع أنحاء العالم. كان هذا بمثابة شوكة واضحة موجهة للرئيس الأميركي، الذي أعلن في الآونة الأخيرة نفسه "قومياً" وحذر من مخاطر "معولمين" مثل جورج سوروس، مما أثار شكوكاً صحيحة بأن القومية الأميركية هي الوجه الآخر للتفوق الأبيض.
ولكن بعد ذلك، سارت الكاميرا عبر الجمهور وأظهرت قادة آخرين، لا سيما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو يبتسم طوال الحفل، غير معني بأن الصهيونية أصبحت مظهراً عنصرياً قاسياً وعنيفاً للقومية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يبدو متغطرساً لا يُقهر، ولا يُظهر أي تلميح بعدم الارتياح لتحذيرات ماكرون حول شرور القومية المتطرفة، وهو ما فعله كثيراً في أوروبا وخارجها. غادر نتنياهو مبكراً، ويفترض به أن يشرف على الفصل الأخير من المذبحة في غزة. كانت المرة الوحيدة التي ابتسم فيها بوتين أو ترامب، عندما صافح الاثنان بعضهما في بداية ونهاية الحفل. وقد وصل كلاهما متأخرين إلى هذا الحدث، كذلك لم يسيرا مع قادة العالم الآخرين إلى مكان الاحتفال.
عندما كنت أراقب الاحتفال الذي بثه التلفزيون هنا في العاصمة واشنطن، حيث قام رئيسنا المحرج بالوقوف ضد الصحافة الحرة، وتهديد الدستور، وبث مشاعر الكراهية والخوف، تساءلت عما سيفكر به العالم في ذكرى الهدنة هذه بعد 100 عام من الآن. على افتراض أن الجنس البشري سينجو من الخراب المتنامي لتغير المناخ العالمي، فهل سيشهد جمهور المستقبل في الذكرى المئوية الثانية من نهاية الحرب العالمية الأولى هذا الاحتفال المئوي كمقدمة للحرب العالمية الثالثة، أو كنقطة تحول عندما تم الاعتراف بالظهور القاتل للقومية كسمٍ خطير. 
لا تبدو حالة العالم في هذا اليوم واعدة لأي منا، وهنا في الولايات المتحدة، تتزايد المخاوف من حرب أهلية أخرى. تحدثت مع صديق بعد مشاهدة الحفل، وقال إن الولايات المتحدة بالفعل في حرب أهلية. أجبت "لا، لقد عشت في لبنان، وشاهدت نهاية وأثار حرب أهلية. نحن لسنا هناك بعد". ورد على ذلك أن الحروب الأهلية تتجلى بشكل مختلف في أماكن مختلفة، وأشار إلى أن الحرب الأهلية الأميركية الجديدة لن تتبع خطوط حرب الستينات من القرن الماضي، بل إنها ستظهر على أنها انحدار سريع إلى الفوضى والعنف العشوائي.
بعد مذبحة إطلاق النار الجمعي الآخير في كاليفورنيا، والعنف الذي لم يسبق له مثيل في أكتوبر، والذي أوصلنا إلى ذعر القنابل المتنقلة، وقتل الأميركيين من أصل أفريقي بواسطة المؤمنين بتفوق البيض في سوبر ماركت كنتاكي، ومذبحة الكنيس في بيتسبرغ، أعتقد انه قد يكون على حق. بينما يهدد ترامب وسائل الإعلام، ويثير المخاوف بين قاعدته، يلوم كاليفورنيا على حرائقها المدمرة بشكل مرعب، ملمحاً إلى أنه لن يقدم مساعدات فيدرالية، ويلقي بظلال الشك على نتائج الانتخابات النصفية الأخيرة في الولايات التي فاز فيها الديموقراطيون، يمكن أن يكون ذلك أننا ننتقل إلى حرب أخرى بين الولايات.
منذ ما يقرب من عقد من الزمان، جاءت الذكرى السنوية المائة والخمسون للحرب الأهلية الأميركية، وذهبت دون ضجة أو خطب أو إحياء ذكرى وطنية. ربما لم نتعلم ما يكفي من تلك التجربة المخيفة، الطريقة التي تعلم بها الفرنسيون والألمان بوضوح من الحربين العالميتين الأولى والثانية، للتعرف على المياه الخطيرة التي دخلناها الآن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها