الثلاثاء 2018/11/13

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

نهاية القرن الأميركي

الثلاثاء 2018/11/13
نهاية القرن الأميركي
جندي أميركي في الحرب الأولى يدخن سيجارة من يد متطوعة في الصليب الأحمر -1918 (أ ب)
increase حجم الخط decrease
حين تيقن الجنرالات الألمان، خريف العام 1918، بأن هزيمتهم وحلفاءهم أصبحت مسألة محسومة، لم يجدوا أمامهم سوى الأميركيين للتفاوض على إنهاء الحرب. ففي يناير من العام نفسه، كان الرئيس الأميركي، وودرو ولسون، قد أعلن "البنود الـ14" لتحقيق خطته من أجل "السِّلم بلا انتصار". لكن الوقت كان قد تأخر جدا لتجنب مهانة الهزيمة، والأميركيون كانوا قد أصبحوا أكثر تورطاً في المعارك على الجبهة الغربية، وتبدلت مواقفهم الساعية إلى إنهاء القتال، إلى الرغبة في مكاسبه. وانتهت الحرب برسم عالم جديد تماماً، هو في معظمه العالم الذي نعرفه اليوم. انهارت الإمبراطورية العثمانية، وقُسّمت ممتلكاتها بين المنتصرين، وشهد العالم بزوغ اليوتوبيا الشيوعية على أنقاض الحكم القيصري. خرجت عشرات الأمم إلى الوجود في البلقان، وشرق أوروبا ووسطها، والشرق الأوسط، وعادت بولندا إلى الحياة بعد فقدها سيادتها لأكثر من قرن. أما شروط الاستسلام المجحفة في حق ألمانيا، فكانت بذاراً للحرب الثانية وأهوالها. لكن، وسط هذا كله، فإن ما أصبح جلياً لنا الآن بأثر رجعي، هو أن نهاية الحرب كانت بداية القرن الأميركي. فالعالم لم يعد يُحكم من أوروبا. بل إن القوى الأوروبية، بعدما جلبت إلى القارة العجوز التكتيكات المروعة والبربرية التي استخدمتها ضد الشعوب المستعمرة، أضحت هي نفسها في حاجة إلى من يحسم لها معاركها، ويحميها من انفلات جنونها. 

قبل يومين، في باريس، كان العالم يتذكر مرور قرن كامل على نهاية الحرب. شارك الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية، في مراسم خاصة، هي الأولى من نوعها، للإقرار بأن مئة عام كافية للنسيان. وفي لندن، وضع الرئيس الألماني، مع الملكة إليزابيث، أكليلاً من الزهور على النصب التذكاري لضحايا الحرب، وكانت هذه المرة الأولى على الإطلاق التي يشارك فيها رأس الدولة الألمانية في احتفالات بريطانيا بـ"يوم الذكرى".

لكن مراسم الذكرى والغفران لم تكن وحدها الحاضرة هناك. فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كان قد أثار لغطاً بسبب تخلّفه عن زيارة مقبرة الجنود الأميركيين في إحدى ضواحي باريس، يوم السبت الماضي. وربما لم يكن هذا سوى عرض جانبي للتوتر بين الأوروبيين وحلفائهم القدامى في واشنطن. فالرئيس الفرنسي كان قد أعلن، قبل انطلاق المراسم الاحتفالية، الحاجة إلى إنشاء "جيش أوروبي". وبرر ذلك، بضرورة حماية أوروبا من الروس والصينيين، بل والولايات المتحدة نفسها. وكان ترامب قد رد على تلك الدعوة بأنها مهينة. وعاد ماكرون لتوجيه سهام النقد في اتجاه الولايات المتحدة، حين دعا إلى نبذ "القومية"، والاحتفاء بـ"الوطنية"، في إشارة ضمنية إلي وصف ترامب لنفسه بإنه "قومي".

بالطبع فإن شعار "أميركا أولاً"، وابتزاز ترامب لحلفائه في حلف الناتو خلال العامين الماضيين، دفع الأوروبيين إلى التفكير جدياً في بدائل للدور الأميركي في حفظ الأمن الأوروبي. لكن الأمر لا يتعلق بترامب وحده. فردود الأفعال المتواضعة من إدارة أوباما، تجاه التحرشات الروسية المتزايدة بجيرانها، وتوسع نفوذ موسكو في شرق أوروبا ووجودها العسكري في سوريا، كان قد دفع الأوروبيين إلى بحث وسائل لمواجهة الروس منفردين. ومع إن انكفاء الإمبراطورية الأميركية كان قد بدأ مع الولاية الأولى لباراك أوباما، فإن سياسات ترامب الأكثر صِدامية، والتي طاولت الحلفاء التقليديين بمن فيهم الجار الأقرب كندا، كان قد سرّع وتيرة تراجع الثقة في منظومة التحالفات العالمية التقليدية.

بعد مئة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى، يبلغ القرن الأميركي نهايته، ويظهر دور الولايات المتحدة في لحظة انحسار. فبين "جيش أوروبي" وترتيبات لـ"ناتو عربي"، ورفض عالمي للالتزام بإعادة فرض العقوبات الأميركية على إيران، تبدو الترتيبات الدولية قيد التشكل مرة أخرى، ببطء وبلا خطة واضحة، لكن بقناعة أكيدة بأن المنظومة القديمة فقدت جاذبيتها، حتى بين القائمين عليها والأكثر استفادة منها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها