الثلاثاء 2018/11/13

آخر تحديث: 09:16 (بيروت)

إصبع نصرالله في وجوهنا

الثلاثاء 2018/11/13
إصبع نصرالله في وجوهنا
increase حجم الخط decrease

في خطابه الأخير، يوم العاشر من هذا الشهر، طغت تهديدات حسن نصرالله المتعلقة بلبنان على ما عداها من اعتبارات، فهو قد فتح النار بدرجات على باقي القوى اللبنانية، ليعلن نفسه الآمر الناهي الوحيد في لبنان. لكن هذه المنزلة الحصرية ستتبدد حالما نظرنا إلى خطابه كأول رد يراني عملي يعقب تطبيق الحزمة الجديدة من العقوبات الأمريكية على طهران، أي حالما نظرنا إلى صاحب الخطاب كناطق "من بين ناطقين آخرين" باسم المشروع الإيراني في المنطقة ككل، من دون أن ننزع عنه خصوصيته كونه على تماس بالحساسية الإسرائيلية.

زعيم حزب الله، الذي يؤكد لنا كل مرة بنفسه أنه "لا ينطق عن الهوى"، يعلم قبل غيره أن تعطيل ولادة الحكومة اللبنانية خيار أقل مرارة بالنسبة لشريحة لبنانية واسعة من خيار حكومة تمثّل الانصياع السياسي التام له، مع استثناء الذين يريدون حكومة بأي ثمن لتمرير مكاسبهم الشخصية الضيقة. لكننا نعلم أيضاً أن الرسالة التي انطلقت من لبنان يُراد سحبها على ملفات عديدة في المنطقة، وفحواها القدرة الإيرانية على التعطيل والتخريب أينما وجدت ميليشيات تتبع أوامر طهران. إطلاق هذه الرسالة من لبنان تحديداً قد لا يخلو من إشارة للفرنسيين أكثر من غيرهم كي يتدخلوا لدى الإدارة الأمريكية، مثلما قد يدخل في قناة التفاوض التي تكثر الأقاويل حولها وتتولاها سلطنة عمان بين إسرائيل وإيران.

نبرة التحدي التي يتحدث بها نصرالله تستند أولاً إلى ضعف خصوم إيران المحليين، ففي لبنان لا يمكن مقارنة ميليشيا تمتلك عشرات آلاف الصواريخ، مع قاعدة طائفية هي الأكثر تماسكاً، بأية قوة لبنانية أخرى أو حتى بتحالف العديد من القوى. في سوريا، حيث تشارك ميليشيا الحزب في الحرب على السوريين، هناك أكثر من ثلاثين ميليشيا شيعية تأتمر بتعليمات طهران، وتنتشر في مواقع ذات أهمية تفوق الأهمية التي لميليشيات بشار الأسد. هذه الوضعية تدحض الكثير مما يُشاع عن السيطرة الروسية المطلقة، وحيث لا يمكننا أيضاً تنحية فرضية التنسيق بين الجانبين فإن قدرة طهران على البقاء ومقاومة محاولات إخراجها تفوق الجهد المتوقع لإخراجها، فلا تل أبيب ولا واشنطن في وارد الدخول في مواجهة عسكرية كبرى.

بالتأكيد تستفيد طهران اليوم من تضعضع الجبهة الإقليمية المعادية لها؛ الانقسام الخليجي واحد من أوجهه، وفي ما عدا الحصار على قطر هناك الدور العُماني المسكوت عنه خليجياً، ربما لأنه يحظى برعاية أمريكية. حكام الإمارات أنفسهم، رغم الجعجعة الإعلامية المتواصلة ضد إيران، لم يتخذوا إجراءات تُذكر للتناغم مع العقوبات الأمريكية، ومن المعلوم أن الإمارات هي أكبر مركز إقليمي للتحايل على العقوبات منذ ما قبل تعليقها بموجب الاتفاق النووي، والشركات الإيرانية الكثيرة المنشأة لهذا الغرض لم يتوقف نشاطها.

في الملف اليمني لا يبدو التحالف السعودي-الإماراتي في أفضل أحواله اليوم، إذ بدأ التركيز الإعلامي الغربي عليه غداة اغتيال جمال خاشقجي في القنصلية السعودية، ولو على سبيل الضغط لإحراج ولي العهد السعودي الذي تُعتبر هذه حربه واختباره الشخصيين. في كل الأحوال، الضغط الغربي المستجد من أجل التسوية في اليمن يمنح طهران أفضلية فرض شروطها، بخلاف الحرب التي كانت مدعومة غربياً بلا تحفظ من أجل استئصال الميليشيات الحوثية. على الأقل يمكن القول بأن الغرب رفع تغطيته نسبياً عن التحالف السعودي-الإماراتي في اليمن وهذا قد يحول دون النصر المنتظر، وربما لا يمانع الغرب في استمرار الحرب بوصفها حرب استنزاف لجميع الأطراف.

إذا كان نصرالله قد عُرف أيضاً بسبابته التي يرفعها فهو الآن بتهديداته الجديدة يرفعها في وجوهنا جميعاً، نحن المعنيين بالدمار الذي ألحقته وستلحقه إيران بالمنطقة. الرهان على ضعف الخصوم يستند إلى خبرة سابقة من التنازلات أمام المدّ الإيراني، ويستند إلى واقع أن القيادات الحالية ليست أكفأ من سابقاتها، وهي لا تمتلك استراتيجية حقيقية للمواجهة، بل تستند إلى وعود أمريكية لا يُعرف مداها الزمني ولا مقدار جديتها. العامل الإسرائيلي الذي يُراد الاستثمار فيه من قبل هذه القيادات ليس غريباً عن الإيرانيين، فالتفاوض بين الجانبين عبر قنوات وسيطة كان نشطاً في العديد من المناسبات، ولن يكون مستغرباً من تل أبيب أن تستغل الفرصة للتكسب على طرفي الصراع.

أما إشارة نصرالله إلى أنه وجماعته مستعدون لبيع بيوتهم لقاء الاحتفاظ بالصواريخ فهي أفضل تعبير عن لسان حال حكم الملالي، أي أن العقوبات الاقتصادية لن تؤثر على النشاطات العسكرية لطهران التي ستبقى لها الأولوية، مثلما كانت لها الأولوية دائماً على حساب معيشة المواطن الإيراني. وبما أن حكم الملالي أثبت قدرته في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية فهو واثق من قدرته الآن على تطويع الإيرانيين، بحيث يقبلون معادلة الإفقار مقابل الصواريخ، والحق أن المواطن الإيراني هو المهدد في معيشته لا الميليشيات الشيعية التي ستبقى لها أولوية الدعم العسكري والمالي في ظروف الضغط والعقوبات.

على المدى البعيد يراهن نصرالله ومن خلفه على تراجع الغرب، لأن الأخير طالما فضّل التعاطي مع عدو منظم ومنضبط على التعامل مع أصدقاء ضعفاء ومشتتين. هذا هو حال حزب الله بالمقارنة مع القوى اللبنانية الأخرى، وهذا هو حال طهران بالمقارنة مع القوى الإقليمية. بالمعيار ذاته، لقد فضّل الغرب من قبل الصمت على الإرهاب الشيعي لأنه إرهاب منظم ذو قيادة واضحة يمكن التفاوض معها، بخلاف الجهاديين السنة الذين بدوا دائماً أقرب إلى العدمية السياسية فوق تشتتهم وانقساماتهم. إيران وحزب الله لم يقصّرا يوماً في العزف على هذا الوتر، بادّعاء التصدي للإرهاب السنّي، والتلميح لصلاحية إرهاب الميليشيات الشيعية كبديل منضبط.

المعطيات السابقة كلها لا تعني تكرار تجربة السنوات السابقة بحذافيرها، ولا تعني أن "النصر الإلهي" قادم. إلا أن الظروف الحالية لا تشجع على التفاؤل إطلاقاً، وتوزع القوى الموجودة بين ميليشيات بأيديولوجيات قروسطية واستبداد لا يقل عنها تخلفاً لا يحتاجان سوى النوعية الحالية من الحكام الغربيين كي نكون أمام دورة أشد من العنف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها