الأحد 2018/11/11

آخر تحديث: 08:49 (بيروت)

البطاطس أم عمرو دياب؟

الأحد 2018/11/11
increase حجم الخط decrease

مشكلة كبيرة أن يكون لك قراء غير مصريين، مشكلة لهم، ومشكلة أكبر للكاتب، فكيف نقنع قارئا سوريا أو جزائريا أو صوماليا، أن مصر، المرتبطة في أذهانهم بعبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم، ونجيب محفوظ، يخير رئيسها الحالي شعبه بين التقدم والبطاطس؟، لا شك أن القاريء غير المتابع لن يحترمنا، وسيظن أننا نستهزئ به، ولا نقول الحقيقة، جربت هذه اللعبة غير مرة مع السيسي وحكومته ولم تفلح، تخيل نفسك أمام صديق سوري يموت أهله في بلاده بالبراميل المتفجرة، نصف شعبه مهجر، والنصف الآخر في الطريق، يرى ويسمع كل يوم مصائب الدنيا في بلاده، وعنها، ثم تأتي لتخبره أن الرئيس المصري يقول أن ثلاجته ظلت لعشر سنوات ليس بها إلا الماء، فيضحك ويمتدح خفة دم المصريين، فتخبره أنك جاد، فيضحك مرة أخرى ويمتدح خفة دم الرئيس، ويتحسر على المستبد السوري: فاشية وسماجة، على الأقل السيسي دمه خفيف، ويمزح مع الناس، فتحلف له بالطلاق أن السيسي لم يكن يمزح وكان يتحدث بمنتهى الجدية فيبدأ في التململ، ويرى أن النكتة باخت، ويطالبك بالتوقف، وينتهي الموقف كله بأنه غير مقتنع، ثم يأتيك بعد أيام مذهولا وهو يردد: السيسي كان جادا فعلا، شفت الفيديو، يا الله!


أمام تصريحات السيسي وحكومته، لا يمكنك أن تكون جاداً، ولا يمكنك أن تكون ساخرا، ولا يمكنك أن "تكون" ... حالة من العدمية الاضطرارية لن تجد منها مفرا، ولو كنت أكثر المتفائلين سذاجة ومثالية، آخر تصريحات السيسي، كانت في شيء اسمه مؤتمر الشباب، لا أحد إلى الآن يعرف لماذا يقيمونه، إلا السيسي، وربما هو نفسه لا يعرف، لكنها أرزاق ومقسومة، فاللهم لا اعتراض، يسأل أحدهم السيسي: ما رأيك في الرؤساء الذين يريدون أن يحكموا بلادهم إلى الأبد؟ فيرد السيسي (جاداً): "لا يوجد أبد، فالحياة تنتهي بموت الإنسان"!،..... لم يخبرنا أحد، إلى الآن، ما هي تطورات الحالة الصحية للسائل بعد هذه الإجابة العميقة؟، لكن أغلب الظن أنه على قيد الحياة، نتمنى له الصحة والعافية، ونصلي من أجله، أن يعود إلى بلاده سالما خاليا من أمراض ضغط الدم، والجلطة، والسكتة الدماغية، والشلل الرباعي.


فقط أردت التمهيد، لإقناعك أن كل التصريحات على لسان المسؤولين التي ترد في هذه المقالات صحيحة مائة بالمئة، وجادة مائة بالمائة، وقيلت في سياقات سياسية لا تحتمل سوى المسؤولية في الطرح والخطاب، لكنها مصر، فاقرأ وأنت ساكت، وزير التعليم المصري، واسمه بعد البحث في جوجل، فلا أحد يعرفه، طارق شوقي، كان في البرلمان، ومعلومة أن لدينا برلمان صحيحة هي الأخرى، بقطع النظر عن غياب أي نشاط برلماني في الساحة المصرية، فالوجود شيء والماهية شيء آخر والفاعلية شيء أخير، وإذا سألت فاسأل الله، وربنا أمر بالستر، الوزير صرح تحت قبة البرلمان، وهو في كامل قواه العقلية، أن سبب تدهور التعليم في مصر هو مجانية التعليم، وأننا نضحك على أنفسنا حين نقدم تعليما مجانيا، وأن الناس تستطيع أن تدفع بدليل أن تذاكر حفل عمرو دياب وصلت إلى عشرين ألف جنيه، والنَّاس تدفع، فيما تدعم الدولة التعليم ولا تجد ما تنفقه، ولم ينس الوزير أن يعاتب الشعب لأنه يدفع أيضا لمراكز التعليم الخاصة ولا يدفع للدولة!


  دعك من الذين يقولون أن وزير التعليم يتصور أن الشعب المصري كله يحضر حفلات عمرو دياب، فأنا واثق أن الرجل صادق، وأن  كل من يعرفهم معالي الوزير من المصريين يحضرون حفلات عمرو، المشكل الحقيقي ليس في لي عنق المنطق، أو كسر رقبة القياس، المشكل أن معالي الوزير أخطأ في معلومة أهم بكثير من ميزانية التعليم في مصر ومن التعليم نفسه، وهي أسعار تذاكر حفلات عمرو دياب، والتي لا تزيد بأي حال من الأحوال عن ألف جنيه مصري، فكيف وصل الألف إلى عشرين؟، الوزير طبعا لا يكذب، ويبدو أن أحد أولاده لسع منه عشرين باكو وأفهمه أنها ثمن تذكرة حفلة عمرو واضطر الرجل آسفا أن يدفع وفاء بالتزاماته كأب مسؤول لا يمكنه أن يحرم أبناءه من حضور حفلات الهضبة!


المجانية إذن هي سبب كل المصائب، وعلى الناس أن تدفع بدلا من الذهاب إلى عمرو دياب أو مراكز الدروس الخصوصية، المشكلة أننا لن نستطيع إقناع الناس بسهولة، ذلك لأن عمرو دياب في النهاية يقدم خدمة تستحق الدفع، فماذا تقدم وزارة التعليم،؟ المراكز الخاصة نجحت في تحويل مناهج التعليم الأكثر مللا من تكرار كلمة "الليلة" بمشتقاتها في أغاني عمرو دياب، إلى مادة قابلة للحفظ، وهو ما يضمن تحقيق الدرجات اللازمة لدخول الكلية التي تضمن بدورها شهادة عالية سوف يكون لها أبلغ الأثر في تحديد مسار الحياة الزوجية لصاحبها... فما الذي تقدمه الوزارة على مستوى المناهج أو المدارس أو طريقة التدريس .. أو حتى الحياة الزوجية؟


مشكلة التعليم في مصر تناقش كل عام، منذ ألف سنة، الأسئلة نفسها، الإجابات نفسها، التوصيات نفسها، التي لا يتحقق منها أي شيء، الجديد، هذا العام، هو أن وزير التعليم كمسؤول، لا يرى نفسه مسؤولا، لا هو ولا برلمانه ولا رئيسه، فالمسؤول هو عمرو دياب، والناس الذين يسمعونه بعشرين ألف جنيه ...


في مصر الآن مشكلة اقتصادية طاحنة، دولار يقترب من العشرين جنيها، أسعار مرعبة، إرهاب يحصد أرواح المدنيين والعسكريين على السواء، ويقتل المسيحيين على الهوية الدينية، فيما رئيس الدولة ينفق المليارات في منتجع، له ولأصدقائه، يسميه العاصمة الإدارية، وال"لا شيء" يسميه مؤتمرات الشباب، الفصول الدراسية مكدسة بالطلبة، أتحدث عن تعليم الغلابة، أكثر من 80 بالمئة من الشعب المصري، وليس عن مدارس رواد حفلات الساحل الشمالي وكايرو فيستيفال، بعض الفصول وصلت إلى 90 طالبا، لا يدرسون شيئا على الإطلاق، ذهاب وإياب وعذاب يومي، مصاريف أكل وملابس ومواصلات ودروس خصوصية من أجل اللا شيء، فيما يجلس الوزير المسؤول في البرلمان المسؤول عن مساءلته ويقررا معا أن الشعب هو السبب ... هنا القاهرة!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها