الجمعة 2018/10/26

آخر تحديث: 06:29 (بيروت)

موسكو والامتحان السعودي للغرب

الجمعة 2018/10/26
موسكو والامتحان السعودي للغرب
increase حجم الخط decrease

لن تجد الكثير عن قضية الخاشقجي في إعلام الكرملين الرسمي ومحطات تلفزته. والقليل الذي تجده في هذا الإعلام يسخر هذه القضية لمقتضيات حربه المستمرة على الغرب والقيم، التي يمثلها، ولا يمت بصلة للدفاع عن حرية الكلمة وكرامة الحياة البشرية، اللتين يرمز إليهما استشهاد الخاشقجي. وهو لا يختلف في مقاربته هذه عن سلوك النظامين السوري والإيراني حيال القضية، اللذين يستفيض إعلامهما هذه الأيام في فجوره في ملاحقة تفاصيلها واستغلالها، حتى ليكاد المرء يعتقد أن الخاشقجي كان جندياً استشهد في حربهما على شعبيهما وشعوب المنطقة.

لا يطيق نظام الكرملين، كما سائر الأنظمة التسلطية، أي نقد يوجه إليه، ويعتبره موجهاً ليس ضده، بل ضد روسيا نفسها. المقالة السابقة لكاتب هذه السطور حول قضية الخاشقجي، التي نشرت على موقع "المدن" منذ اسبوعين، نقلتها وكالة نوفوستي على موقعها "inosmi" المخصص لترجمة الصحف الأجنبية، وقدمت لها بالقول "... ، كاتب "المدن" ، وبلهجته العدوانية المعهودة، يهاجم روسيا من جديد". هكذا، وبكل بساطة، تتحول مقالة في صحيفة إلى هجوم على روسيا بأسرها! كيف لعاقل بعد ذلك، أن يتخيل أن مثل هذه الروسيا يمكن أن تتضامن مع قضية حرية الكلمة، التي كان الخاشقجي شهيدها.

اللافت أن أحزاب المعارضة الليبرالية الروسية ، خاصة حزبي"حرية الشعب" و"يابلوكا"،  لم يصدر عنها ما يشير إلى إيلاء قضية الخاشقجي أي اهتمام، أو أنها لم تتمكن من التعبير عن هذا الإهتمام في وسائل الإعلام تلك، التي تعكس عادة الأصوات المعارضة، مثل إذاعة "صدى موسكو"، التي يملك غالبية أسهمها العملاق النفطي "غازبروم"، وصحيفة "Novaya"، التي يساهم ميخائيل غورباتشوف في ملكيتها. واكتفت الصحيفة المذكورة بمقالة وحيدة عن قضية الخاشقجي اختصرتها بتفاصيلها البوليسية، ودحضت مقولة ساعة الخاشقجي وتسجيلها تفاصيل الجريمة داخل القنصلية السعودية، وذلك لافتقاد الساعة لهذا الإمكانية التقنية، على قولها.

أما صحيفة "kommersant" المستقلة، والمعروفة بمصادرها المطلعة في وزارة الدفاع، فقد تابعت القضية بانتظام، ونشرت غير مقالة في هذا الشأن عنونت إحداها بالقول أن "الصحافي الميت أصبح أكثر خطورة من الحي"، وأشارت إلى أن مقتل الخاشقجي، الناقد الشهير للسلطات، يهدد المملكة السعودية بالعزلة والعقوبات، وتتطور قصته لتصبح "فضيحة العام". وتقول في مقالة أخرى، أن الديموقراطيين الغربيين يمرون "بامتحان المملكة السعودية"، وقد تكون لمقتل الخاشقجي "عواقب كارثية" على صورة المملكة، التي ما تزال حتى الآن تتمتع بدعم غير محدود من الدول الغربية. فلم يثر غضب هذه الدول، لا لحرب اليمن وضحاياها من المدنيين، ولا لكون السعودية يحكمها أحد أكثر الأنظمة استبدادا على الأرض، وذلك لأن المملكة مصدر للنفط، وزبون مضمون لشراء أحدث الأسلحة، وحليف موثوق في المجابهة مع إيران الشيعية.

لكن ساعة الحقيقة قد دقت بالنسبة للزعماء الغربيين، حسب الصحيفة، وإذا لم يتمكنوا من إيجاد مخرج لائق من هذا الموقف الحساس والحرج، فسوف تتقوض هيبتهم الأخلاقية، ويصبح من الصعب عليهم انتقاد سلطات فنزويلا وإيران والصين أو روسيا نفسها لانتهاك حقوق الإنسان. فهم سوف يصطدمون دائماً بتذكيرهم بالحليف السعودي، الذي يتصف بسلوك أشد استفزازا من جميع الأنظمة تلك، من دون أن يرد في بال أحد في الغرب معاقبته على سلوكه هذا. فالديموقراطيون الغربيون، ومن دون أدنى مغالاة، يمكن القول بأنهم يمرون الآن "بامتحان المملكة العربية السعودية".

صحيفة الشوفينيين الروس "SP"، التي تعارض النظام عن أقصى يمينه، ويرأس تحريرها أحد أبرز الكتاب الروس الشباب، تتساءل "في سبيل ماذا مات الخاشقجي"، وتقول بأن مصير الصحافي السعودي، بعد قتله الوحشي، يذكر بمصير الصحافي الأوكراني غيورغي غوغاندزه، الذي تنازعت مصيره بعد مقتله المكائد السياسية المختلفة، وأفضى موته إلى الثورة الأوكرانية. وتقول بأن العالم كله يعرف بأن المملكة العربية السعودية ليست الدولة الأكثر حرية وديموقراطية في العالم، ولا تتفوق على كوريا الشمالية بمستوى الحريات السياسية والمدنية، لكن الكل كان يتظاهر، بأن لا شيئ خطيراً يجري ويطور التعاون مع النظام الإقطاعي. هكذا كان يتصرف حتى الآن كبار ديموقراطيي أوروبا.

وتنتهي الصحيفة إلى القول، بأن القرابين التي يقدمها الصحافيون باستمرار، هي جزء لا يتجزأ من النضال في سبيل حرية الكلمة، ولهذا "نقول وفق التقاليد المسيحية: فليرحم الرب المسلم (جمال) الخاشقجي".

وتتساءل صحيفة "NG"، التي تصف نفسها بالمستقلة، ما إذا  كانت العقوبات "سوف تفرض على الأمير السعودي"، وتقول بأن أعضاء مجلس الشيوخ الأميركيين يصرون على تغيير "الإيديولوجي الرئيسي" لمنظمة الأوبك. وتقول بانه، بينما تنهمك بلدان منظمة الأوبك باختيار اسم المنظمة الجديدة ومكان مقر أركانها، تتكثف الغيوم فوق أحد أهم شركاء هذه الصفقة. في 7 كانون الأول/ديسمبر القادم يجب أن يلتقي المشاركون في اتفاقية الأوبك لإنشاء منظمة جديدة للبلدان المنتجة والمصدرة للنفط، والسؤال الأهم هو من سيكون ولي العهد في المملكة العربية السعودية في مطلع كانون الأول/ديسمبر، وهل ستفرض الولايات المتحدة، حتى ذلك التاريخ، عقوبات على أوفى حلفائها في الشرق الأوسط.

وتنقل الصحيفة عن السيناتور الأميركي راند بول قوله، بأن حل الأزمة السياسية في المملكة السعودية، الناجمة عن مقتل معلق الواشنطن بوست جمال الخاشقجي، ينبغي أن يكون بنقل السلطة من الأمير محمد بن سلمان إلى ممثل آخر للعائلة المالكة.

أما صحيفة الكرملين "VZ" فليست مهجوسة بالتضامن مع قضية الخاشقجي وحرية الكلمة، بل هي مهجوسة باستخدام القضية لبلورة مرافعة في الدفاع عن موقف الكرملين حيال الحريات السياسية والإجتماعية. وهي تعبر عن عتبها على الغرب، الذي "يتمهل في معاقبة المملكة السعودية من أجل قضية الخاشقجي"، وتقول في مقالتها، التي عنونتها بهذه الكلمات، أن الصحافي جمال الخاشقجي، الذي قتل في اسطنبول، لم يصبح "سكريبال آخر". وليس لأن الأول قُتل والآخر بقي على قيد الحياة، بل لأن لا الولايات المتحدة ولا بريطانيا ولا الإتحاد الأوروبي يتعجلون فرض عقوبات على الأسرة المالكة في الرياض، أو يطردون الدبلوماسيين السعوديين من عواصمهم. وتتساءل عن السبب في هذا الإختلاف الصارخ عن الموجة غير البعيدة من العداء لروسيا، ولماذا على أردوغان أن ينهمك في هذه القضية نيابة عن العالم أجمع.

وتقول الصحيفة في مقالة سابقة، أن مقتل الصحافي السعودي قد فضح جشع واشنطن، التي لم تثر الجريمة الشنيعة لديها سوى ردة فعل نادرة في نعومتها. وتشير إلى أن الرئيس ترامب صدق تبريرات الرياض، وفوت فرصة ثمينة، على ما يبدو، للدفاع عن حرية الصحافيين والإنسان عموماً، لكن ثمة في المقابل صفقة سلاح مع الرياض تتخطى قيمتها 100 مليار دولار.

لكن الصحيفة تتجاهل بالتأكيد فرضية أن يوضع الكرملين، وليس البيت الأبيض، أمام الخيار عينه بين صفقة سلاح بهذا الحجم والدفاع عن حقوق الصحافيين، وهو الذي يتباهى بحربه السورية، التي ضاعفت مرات عديدة مبيعات الأسلحة الروسية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها