الجمعة 2018/10/19

آخر تحديث: 14:28 (بيروت)

الكرملين وانشقاق الكنيسة الأرثوذوكسية

الجمعة 2018/10/19
الكرملين وانشقاق الكنيسة الأرثوذوكسية
increase حجم الخط decrease

كان من الصعب أن يتصور أحد ، أن ما لم يتمكن منه الغرب في كبح جماح الكرملين في طموحاته الإمبراطورية ، تيسر للبطريرك المسكوني بارثلوميو في اسطنبول . فقد تجاهل البطريرك احتجاجات الكرملين وكهنة كنيسته ، ولبى رغبة الكنيسة الأوكرانية بالإستقلال عن بطريركية موسكو وسائر روسيا ، وذلك بإلغاء القرار الكنسي ، الذي كان قد صدر في العام 1686 وألحقت بموجبه الكنيسة الأوكرانية بكنيسة موسكو . كما رفع البطريرك والمجمع المسكوني ، الذي عقد بين 9 و11 من الشهر الجاري ، الحرم الذي كانت قد ألقته الكنيسة الروسية العام 1997على بطريرك كنيسة كييف وآخرين بتهمة شق كنيسة موسكو .

ومع أن قرار اسطنبول لا يعني بعد انفصال الأرثوذكسية الأوكرانية وتوحدها في كنيسة واحدة ، إذ دون ذلك عملية طويلة ، قد تمتد لسنوات ، سارعت موسكو لاعتبار القرار عدواناً على الكنيسة الروسية وانشقاقاً في العالم الأرثوذوكسي . واستبق الكرملين مجمع الكنيسة الروسية  في 15 من الجاري في مدينة منسك عاصمة بيلوروسيا ، وعقد جلسة لمجلس الأمن القومي ، منتصف ليل اليوم التالي لمقررات المجمع المسكوني ، بحث خلالها في الرد على قرارات اسطنبول . وأعلن الناطق باسم الكرملين في تعليقه على "الأزمة الكنسية" في أوكرانيا ، أنه " إذا ما دخلت العمليات الجارية في نطاق الإفتئات على الحقوق ، فإن روسيا ، التي تدافع عن مصالح الناطقين بالروسية ، سوف تدافع عن مصالح الأرثوذوكس... لكن بالوسائل السياسية الدبلوماسية فقط" .

ورأى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ، أن للولايات المتحدة دوراً في هذا "الإنشقاق" ، وأن الكنيسة لأرثوذوكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو "تقف ضد تلك الإستفزازات ، التي يقوم بها بطريرك اسطنبول بارثولوميو بدعم علني من واشنطن . وتذهب وكالة نوفوستي للقول ، بأن الولايات المتحدة بصدد إقامة "ناتو مقدس" ضد روسيا من الكنائس الأرثوذوكسية ، التي تنضوي تحت لواء الأرثوذوكسية المسكونية في اسطنبول.

ويعبر الكرملين عن قناعته ، بأن الإنشقاق ، الذي شرع له البطريرك المسكوني ، سوف يؤدي إلى صدامات وصراعات دموية لتقاسم أملاك الكنيسة بين مختلف فروعها في أوكرانيا. وتتساءل صحيفة الكرملين "vz" عن الوسائل ، التي تملكها موسكو للدفاع عن الأرثوذوكس الأوكرانيين ، الذين يرفضون الإنفصال عن كنيسة موسكو ، والإلتحاق بالأرثوذوكسية المسكونية . وترى أنه لا بد من التفاوض مع الرئيس التركي إردوغان حول ارتباطات البطريرك بارثولوميو بالداعية الإسلامي فتح الله غولن ، وأنه ينبغي على موسكو أن تساعد إردوغان في متابعة هذه الصلات ، التي كانت "جد وثيقة" . وترى الصحيفة ، أن أخطر الأصوات هي تلك ، التي "تطمئننا وتؤكد أن لا شيئ خطيراً قد حدث" ، وأنه لن تكون هناك أية احتلالات للكنائس ، لأن نداء "بطريركية اسطنبول" ، قال بأن " لا موجب للإحتلالات" .

تحولت الكنيسة الروسية في ظل البطريرك كيريل إلى جزء من مكونات السلطة ، يصعب الفصل في تداخلاتها مع مؤسسات الدولة ، بما فيها المؤسسات العسكرية والأمنية ، كما يقول في مقابلة مع "راديو الحرة" بالروسية أحد خدمها السابقين . وحدد الكرملين لهذه الكنيسة مسبقاً المعالم الرئيسية لما ينبغي أن يكون عليه "ردها المتشدد" على قرارات البطريركية المسكونية في اسطنبول . وقد عقد مجمع هذه الكنيسة جلسة في 15 تشرين الأول/أوكتوبر الجاري في مدينة مينسك للرد على مقررات الكنيسة المسكونية ، خرجت بإعلان القطيعة معها ، وتحريم الصلاة وكافة الموجبات الدينية في المعابد والأديرة والمؤسسات التابعة لهذه الكنيسة .

ينقل موقع "Livejournal" عن المستشار السابق للرئيس الروسي أندري إيللاريونوف  قوله ، بأن يوم 15 تشرين الأول/أوكتوبر 2018 قد يدخل التاريخ العالمي بوصفه بداية الإنقسام العظيم الثالث في تاريخ المسيحية المشرقية . وهو يدخل ، جنباً إلى جنب ، مع 16 تموز/يوليو 1054 ، يوم انقسمت فيه المسيحية إلى مشرقية وغربية ، و1 تشرين الأول/أوكتوبر 1517 ، يوم انقسمت المسيحية الغربية إلى كاثوليكية وبروتستانية . ويقول الكاتب ، أن من بين النقاط الخمس ، التي تضمنها إعلان مجمع البطريركية المسكونية ، قد يكون أكثر ما استفز موسكو ، ليس نزع الحرم عن قادة الكنيسة الأوكرانية ، وحتى ليس انطلاق عملية  منح الكنيسة الأوكرانية استقلالها الذاتي ، بقدر ما استفزها إلغاء الإلتزام الشرعي للرسالة المسكونية للعام 1686 ، بإلحاق الكنيسة الأوكرانية بموسكو ، إذ كانت رعية كييف في ذلك التاريخ البعيد تضم مناطق عديدة ، بما فيها بيلوروسيا الحالية ، وكانت الرسالة تقدم السند الشرعي لإحكام سلطة القياصرة على هذه المناطق .

لقد وجهت قرارات المجمع المسكوني ضربة مؤلمة لمقولة "العالم الروسي"، الذي يستند في إحدى ركائزه إلى أرثوذوكسية الدولة الروسية، التي يضعها الكرملين الآن في مواجهة مقرها المسكوني ، الذي ترسخ تاريخياً . وهو ما يفسر ، مع اعتبارات أخرى ، التشدد ، الذي اتسمت به الإجراءات ، التي اتخذتها الكنيسة الروسية في الرد على هذه القرارات .

أحد القراء الروس يعلق على هذه الإجراءات عبر موقع "kasparov.ru" بالقول ، مخاطباً قادة الكرملين " لقد اختلفتم مع السنة في الشرق الأوسط ، ومع الكاثوليك في أوروبا ، ومع البروتستانت في أميركا ، وها أنتم تختلفون مع الأرثوذوكس في اسطنبول" . ويقول آخر ، بأن القطيعة مع اسطنبول لا علاقة لها بالصراع مع الغرب ، بل هي في الواقع قطيعة مع جذور روسيا ، ومع تقاليدها وتاريخها . ويقول بأن هذه نهاية حتمية للمنافقين ، الذين ينهبون ويسرقون اليتامى والأرامل ، ويحسبون أنفسهم أرثوذوكساً .

يقول ممثل الكنيسة الروسية لموقع "RBK" الروسي ، بأن التشدد ، الذي اتسمت به قرارات مجمع الكنيسة ، هو "تشدد إضطراري" ، وليس محاولة للإنتصار على أحد ما ، أو لإثبات أمر ما ، بل هو "السلوك الوحيد الممكن ، بالنسبة لنا ، ولا يهدف سوى لأمر وحيد ، هو استعادة التواصل مع أولئك الذين انقطع معهم " .

لكن خطاب الإعلام الرسمي لا يشي ، بأن الكرملين وكنيسته ، يتوخيان من التشدد استعادة اللحمة في العالم الأرثوذوكسي ، بل يسعيان إلى إحلال موسكو مكان إسطنبول . فقد كتبت صحيفة الكرملين في اليوم التالي لانعقاد مجمع الكنيسة الروسية في مينسك تتساءل "هل تستطيع موسكو الحلول مكان اسطنبول بالنسبة للعالم الأرثوذكسي" . وتنقل عن السكرتير الإعلامي السابق لبطريرك الكنيسة الروسية قوله ، بأن موسكو لن تضع نفسها أبداً في موقع الزعامة ، وهذا ليس من العقلية الروسية ، ولا من مفهوم الكنيسة الروسية ، بل "هذا على الآخرين ، وعلى الكنائس الأخرى ، أن يفعلوه " . لكن الرجل ينبه ، في سياق حديثه ، إلى أن ثلثي أبناء رعية الأرثوذوكسية العالمية ، وثلثي الكهنة والمعابد يعودون للكنيسة الروسية ، لذلك "هي الزعيم ، عملياً" .

لكن المحظورات والمحرمات ، التي أقرتها الكنيسة الروسية في ردها على البطريركية المسكونية ، تصيب أبناء رعيتها ، بالدرجة الأولى ، تماماً كما الإجراءات ، التي اتخذها الكرملين في الرد على العقوبات الغربية .  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها