الثلاثاء 2018/10/16

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

الطبقة الوسطى.. أغلبية؟

الثلاثاء 2018/10/16
الطبقة الوسطى.. أغلبية؟
يفترض أنها الطبقة القادرة على الإنفاق على السلع الاستهلاكية، إضافة إلى الاستهلاك الترفيهي كالسينما والسفر (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لطالما كانت الطبقة الوسطى عصية على القياس. فوضعها النسبي بين طبقتين أو أكثر، جعل محدداتها تأتي من خارجها، وتُنسب إلى غيرها. أما النظريات التي اتخذت الطبقة بوصفها وحدة تحليلها الأساسي وجوهر مشروعها السياسي، فلم ترَ سوى ملكية أدوات الإنتاج لتفصل بين طبقتين. وفي هذا، فإن الطبقة الوسطي، أو بالأحرى الشريحة الدنيا منها تحديداً، لا تملك "مصالح طبقية خاصة بها". وهي، وإن كانت الأقرب إلى الطبقة العاملة، فإنها الأكثر دفاعاً عن الوضع القائم. ومع أن اليسار تجاوز ذلك المفهوم الماركسي الكلاسيكي عن الطبقة الوسطي، فإنه في أحيان كثيرة دمجها مع الطبقة العاملة، فاصلاً بين أصحاب الياقات البيضاء والياقات الزرقاء، وفي أحيان أخرى اعتبرها البروليتاريا الجديدة، بعد صعود اقتصاد الخدمات في دول الشمال.

وفي الجهة الأخرى من الخط الإيديولوجي، فإن القياسات الأكثر رواجاً في علم الاقتصاد الأميركي، والتي عادة ما يُستعان بها في المؤسسات الدولية، تحدد الطبقة الوسطى بعدد من المعاملات الكمّية، والتي تضم الدخل ومستوى التعليم ونسب الإنفاق وغيرها. لكن، حتى بحسب تلك المعايير التي تبدو واضحة، فلا اتفاق على ما يمكن اعتباره "الوسط" في مسطرتها. وذلك التردد بخصوص الطبقة الوسطى، لم ينكمش بمرور الوقت، بل إنه يتّسع مع كل ادعاء باتساع قاعدة المنتسبين إلى الطبقة الوسطى.

فنهاية الشهر الماضي، أعلن "معهد بروكنجز" في تحليله السنوي للفقر في العالم، أن الطبقة الوسطي أصبحت هي الأغلبية على مستوى العالم. ومع تراجع معدلات الفقر المدقع، فإن الطبقة الوسطى هي القطاع الأكثر نمواً، بمعدل 6 في المئة سنوياً، بفضل القفزات الاستثنائية في أعداد منتسبيها في الصين والهند. وكان "بروكنجز" قد طوّر معايير لتعيين الطبقة الوسطى، في العام 2010، تعتمد في الأساس على القدرة على الإنفاق على السلع الاستهلاكية، مثل الثلاجات والعجلات النارية، بالإضافة إلى القدرة على الاستهلاك الترفيهي، كالسينما والسفر. ويظل التفاوت داخل الطبقة الوسطى، بحسب "بروكنجز"، شديد الاتساع، بين دولة وأخرى، وداخل البلد الواحد. لكن أهم ما يرصده هو اتساع قاعدة تلك الفئة القادرة على استهلاك ما هو أبعد من مجرد الاحتياجات الأساسية. وما زال النصف الآخر من سكان العالم، محروماً مما يتعدى حدّ الكفاف، و600 مليون نسمة تنتمي إلى الفئات الأكثر فقراً التي لا تتوافر لديها تلك الاحتياجات بشكل دائم وتصارع للحصول عليها.

يحتفي التقرير بـ"نقطة التحول العالمية" تلك. وبحسب كتابه، فإن الطبقة الوسطي، هي المحرك الأساس للسوق الاستهلاكي، وكل اتساع في قاعدتها يعني دعماً لنمو الاقتصاد العالمي. بل ويذهب إلى أن الطبقة الوسطى هي الأكثر رغبة وقدرة للضغط على حكوماتها بغية إصلاح اجتماعي وسياسي، ونموها يعني عالم أكثر ديموقراطية.

غير أن تفاؤل "بروكنجز" لا يبدو مبرراً. فغير تباطؤ الاقتصاد العالمي، قليلة هي الدلائل التي ترجّح اتساع الرقعة الديموقراطية في العالم، إن لم يكن العكس. أما نمو الطبقة الوسطى، فيظهر متناقضاً تماماً مع "تقرير التفاوت الدولي 2018"، إذ أن التباين في الثروة بلغ "نقطة تحول عالمية" أيضاً، وبمعدلات غير مسبوقة. ذلك أن 42 شخصاً فقط، يمتلكون ما يمتلكه 3.7 مليار نسمة من الشرائح الأفقر في العالم. وإذا استمرت نسب التفاوت في الاتساع بالمعدل نفسه، فإن 1 في المئة من سكان العالم سيمتلكون ثلثي ثروات العالم بحلول العام 2030.

والأرجح أن ما يرصده "بروكنجز" في الحقيقة، ليس صعود الطبقة الوسطى أو تمددها، بل لعله العكس تماماً، أي التحول التدريجي لقسمة الموارد عالمياً، إلى طبقتين: واحدة تمثل الغالبية الساحقة من سكان الكوكب، مداخيلها تضاهي حد الكفاف، أو تتعداه بقليل، بما يسمح بتدوير السوق لصالح الطبقة الأخرى، أي الواحد في المئة أو أقل، ممن يحتكمون على الغالبية الساحقة من الموارد. ويظل تقرير "بروكنجز" محقاً في شيء واحد. فالطبقة الوسطى هي الأكثر رغبة في التبرم، والأعلى صوتاً أحياناً كثيرة، لكن ليس بالضرورة لصالح عالم أكثر ديموقراطية. فما يبدو موجةً شوفينية وسلطوية تجتاح العالم، ربما لا يكون سوى المحاولة الأخيرة لطبقة تتسع وتتهاوى في الوقت نفسه، ويتملكها الرعب، فتسعى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بأي ثمن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها